المؤسسات المالية الإسلامية
نشأتها وتطورها
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد سيد الأولين والآخرين، وعلى آله وأصحابه أجمعين، والتابعين، ومن تبع هداهم بإحسان إلى يوم الدين، وبعد:
فإن المؤسسات المالية الإسلامية في عالمنا المعاصر ما هي إلا نجوم لامعة في سماء الاستثمار المالي المعاصر المظلمة، لما خلَّفه فيها النظام المالي المعاصر من مشكلات اقتصادية، وأزمات عالمية، للأغنياء والفقراء على سواء، على مستوى الدول وعلى مستوى الأفراد، بل هي قمر منير في هذه السماء المعتمة، التي خيم عليها غضب الله تعالى، لما فيها من الربا الذي هو محاربة لله تعالى ورسوله، حيث قال سبحانه: (يَاأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ، فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَإِنْ تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُءُوسُ أَمْوَالِكُمْ لا تَظْلِمُونَ وَلا تُظْلَمُون، وَإِنْ كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَةٍ وَأَنْ تَصَدَّقُوا خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ، وَاتَّقُوا يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ) 278-281/البقرة، ، وقد فرَّجت هذه المؤسسات عن الناس الكربة بعد ما سُدَّت في وجوههم طرق استثمار أموالهم، بل طرق حفظ أموالهم أيضا، على وجه يرضي الله تعالى ورسوله، وبعدما تعذر جعل البيوت أو الخزائن الخاصة مكانا صالحا لحفظ الأموال الكبيرة، وهي إن صلحت لحفظ المال لن تصلح لإدارته وتداوله، ثم استثماره وتنميته، وطالما انتظرها المسلمون في أكثر أنحاء المعمورة، فكانت الترياق لذلك الداء، والحل الأمثل لتلك المشكلات المستعصية، ولا يخفى على أحد المشكلات والعقبات الكبيرة التي تخطَّتها هذه المؤسسات في سبيل ظهورها على الساحة الإسلامية، ثم نموها وانتشارها في رقعة واسعة من المعمورة، وسط تشكيك المشككين في إمكانية قيامها وقدرتها على الثبات أمام الأنظمة الربوية التي ملأت الساحة، وعشَّشت في عقول المتخصصين في حفظ المال وإدارته واستثماره، وأورثت في نفوس الكثير منهم -إسلاميين وغير إسلاميين- شبه يقين في أن النظام الوحيد القادر على حفظ المال وإدارته هو النظام الربوي، ولا شيء غيره أبدا، وأن الشريعة الإسلامية لا قدرة لها على إدارة المال بأنظمتها المعروفة التي قعدها أئمة الفقه أخذا من نصوص القرآن الكريم والسنة المشرفة، بل لا قدرة لها على الظهور أصلا -في نظرهم- بين الأنظمة الحديثة، ومما زاد الطين بلة وعقَّد المشكلة ظهور بعض الفتاوى المعاصرة في اعتبار الأنظمة الربوية أنظمة إسلامية مشروعة، بل جعلها بعضهم أكثر مشروعية وأولى باهتمام المسلمين من الأنظمة التي قعدها أئمة الفقه الإسلامي ومذاهبه المعتبرة، وجعل الربح المحدد على القروض بنسبة معينة من قبل البنوك الربوية، أكثر مشروعية من الربح غير المحدد على الاستثمارات الإسلامية بالمرابحة أو المضاربة أو المشاركة أو غيرها من طرق الاستثمار الإسلامية الأخرى .
وليس للمسلم اليوم -مستثمرا كان أو مستهلكا- أمام ظهور المؤسسات المالية والاستثمارية الإسلامية إلا أن يحمد الله تعالى على ظهورها، وأن يعمل كل وسعه على دعمها وتنميتها بكل الطرق المتاحة له ما وسعه ذلك، وأن يدعو الله تعالى لها وللقائمين عليها بالتوفيق والنجاح .
إلا أننا ينبغي أن نعترف -والاعتراف بالحق فضيلة- ونقر جميعا بأن هذه المؤسسات الإسلامية على اختلاف تسمياتها ومواطنها في عالمنا الإسلامي لم تكتمل بعد، ولم تأخذ صورتها الإسلامية الكاملة التي نأملها فيها ونتمناها لها، ولا زال فيها بعض الثغرات والهنات، إن في أصل نظامها أو في بعض تصرفاتها وأعمالها، وأنها لا زالت في طور النشوء والتكوين، وليس هذا عيبا فيها ولا غريبا، بعدما ما قدمنا من كثرة العقبات والتحديات التي تواجهها وتضع العراقيل في عجلاتها .
والذي أريد التنويه به والتنبيه إليه، هو أنَّ على هذه المؤسسات الوليدة أن تتخطى دورها في العمل في النطاق الاستهلاكي، إلى العمل في النطاق التنموي، فتخرج من قوقعة تأمين الحاجات الآنية لبعض المسلمين، من سيارة وفرش .. بالتقسيط إلى دور التنمية الحقيقية، من إشادة المصانع، وإقامة دور البحوث، وإشادة الجامعات، والمدارس، والتوسع في الزراعة على أسسها الحديثة في أراضي العالم الإسلامي الواسعة الطيبة، التي تكثر فيها الأنهار والينابيع، ومع ذلك يعاني أهلها من الفقر والحاجة والحرمان والعيش على موائد الصدقات والتبرعات التي لا تثمن ولا تغني من جوع، فتؤمِّن للمسلمين بل للناس جميعا بذلك فرص العمل الشريف، والحاجات الغذائية والدوائية ..، على أسس العلم والمعرفة، فيلحق بذلك المسلمون بركب الحضارة، ويسايروا ركب التقدم العلمي الذي تخلفوا عنه سنين طويلة .
ولا يخفى على أحد العقبات والعثرات التي تقف في وجه ذلك، من قبل المؤسسات الربوية القائمة من جهة، وتخلف بعض الأنظمة الرسمية في بعض البلاد الإسلامية، مما يجعل الاستثمار فيها كثير المخاطر، إلا أن الرغبة الملحة، والتخطيط السليم، والاعتماد على الله تعالى، والنية الصادقة الطيبة في جعل مال المسلمين خادما للمسلمين جميعا، بل للبشرية كافة، لقادر على تذليل كل العقبات، وإزالة كل هذه العراقيل وغيرها، وأملنا في أثريائنا أصحاب الأموال، وفي علمائنا الذين يخططون وينظمون أمور المسلمين المختلفة، وبخاصة أعضاء اللجان الشرعية المشرفة على هذه المؤسسات التنموية، لكبير في تحقيق هذه الأماني، وتلك الرغبات الملحة .
والبشائر والحمد لله تعالى بدأت تظهر، والأمل بدأ يبدوا للعيان قريبا، بعد أن قرر العديد من الجهات في عالمنا الإسلامي التوسع في المؤسسات الإسلامية، وتوسيع دورها التنموي، واعتمادها أساسا للتنمية بديلا عن النظام الربوي شيئا فشيئا، وبعد أن صدرت تصريحات كثيرة من كبار رجال المال والمسؤولين في أنحاء متفرقة من العالم لاعتماد الأنظمة الإسلامية في إدارة العديد من المؤسسات المالية، وثبوت كفاءة المؤسسات الإسلامية القائمة وجدواها في تحقيق عوائد مرضية للمستثمرين، ربما فاقت في نسبتها العوائد التي تحققها مؤسسات ربوية كثيرة .
والله من وراء القصد، والحمد لله رب العالمين .
الأربعاء 26 جمادى الثانية 1421هـ و 24/9/2000م
أ.د.أحمد الحجي الكردي