التَّــوَرُّق
والتَّـوَرُّق المُنَظَّم
بحث أعده
للندوة الخامسة للمؤتمر الدولي للاقتصاد الإسلامي المنعقدة
في 2-21/4/2010م
أ.د. أحمد الحجي الكردي
بسـم الله الرحمن الرحيم
* تعريف التورق لغة:
الوَرِقُ بكسر الراء والإسكان للتّخفيف النُّقرة المضروبة، ومنهم من يقول: النُّقْرَةُ مضروبة كانت أو غير مضروبة، قال الفارابيّ (الوَرِقُ) المال من الدراهم، ويجمع على (أَوْرَاقٍ) و(الرِّقَةُ) مثل عدة مثل (الوَرِقِ).
و(الوَرَقَ) بفتحتين من الشجرة الواحدة (وَرَقَةٌ) وبها سمي، ومنه (وَرَقَةُ بْنُ نَوْفَلٍ) و(أُمُّ وَرَقَةَ) بنت نوفل، وقيل: بنت عبدالله بن الحارث الأنصارّية، وكان النبيُّ r يزورها يسمّيها الشّهيدة، قال ابن الأعرابيّ: (الوَرَقَةُ) الكريم من الرجال و(الوَرَقَةُ) الخسيس منهم، والورقة المال من إبل ودراهم وغير ذلك، والورق الكاغد، قال الأخطل:
(فَكَأَنَّمَا هِيَ مِنْ تَقَادُمِ عَهْدِهَا %%% وَرَقٌ نُشِرْنَ مِنَ الكِتَابِ بَوَالِي)
وقال الأزهري أيضاً: (الوَرَقُ) ورق الشجر، والمصحف، وقال بعضهم: (الوَرَقُ) الكاغد لم يوجد في الكلام القديم، بل (الوَرَقُ) اسم لجلود رقاق يكتب فيها، وهي مستعارة من ورق الشجرة وجمل وغيره (أَوْرَقُ) لونه كلون الرماد، وحمامة (وَرْقَاءُ) والاسم (الوُرْقَةُ) مثل حمرة، و(أَوْرَقَ) الشجر بالألف خرج ورقه، وقالوا (وَرَقَ) الشجر مثال وعد كذلك، وشجر (وَارِقٌ) أي ذو ورق ([1]).
* تعريف التورق اصطلاحاً:
التَّوَرُّقُ فِي الاصْطِلاحِ أَنْ يَشْتَرِيَ إنسان سِلْعَةً نَسِيئَةً، ثُمَّ يَبِيعَهَا نَقْدًا - لِغَيْرِ الْبَائِعِ - بِأَقَلَّ مِمَّا اشْتَرَاهَا بِهِ؛ لِيَحْصُلَ بِذَلِكَ عَلَى النَّقْدِ (الوَرِق)، وغالباً ما يكون الشراء الأول بالأجل أو تقسيطا، والبيع الثاني نقدا.
وَلَمْ تَرِدِ التَّسْمِيَةُ بِهَذَا الْمُصْطَلَحِ إِلا عِنْدَ فُقَهَاءِ الْحَنَابِلَةِ، أَمَّا غَيْرُهُمْ فَقَدْ تَكَلَّمُوا عَنْهَا فِي مَسَائِلِ بَيْعِ الْعِينَةِ، وَالْبُيُوعِ الْمَنْهِيِّ عَنْهَا، والبيع المؤجل، وَالرِّبَا ([2])، إلا أن بعض الشافعية ذكره باسم الزرنقة([3]).
ولما كانت العِينة مما يقارب التورق أو يختلط به عند بعض الفقهاء، كان لا بد من تعريف العينة، ليظهر الفارق بينهما.
* تعريف العينة لغة واصطلاحا:
الْعِينَةُ بكسر العين لُغَةً السَّلَفُ([4]).
وَاصْطِلاحًا: أَنْ يَبِيعَ سِلْعَةً نَسِيئَةً، ثُمَّ يَشْتَرِيَهَا الْبَائِعُ نَفْسُهُ منه قبل استيفائه الثمن بِثَمَنٍ حَالٍّ أَقَلّ مِنْهُ.
قال الجرجاني في التعريفات: « بيع العينة هو أن يستقرض رجلٌ من تاجر شيئاً فلا يقرضه قرضاً حسناً، بل يعطيه عيناً، ويبيعها من المستقرض بأكثر من القيمة، سمي بها لأنها إعراض عن الدين إلى العين»([5]).
وَلا صِلَةَ بَيْنَ التَّوَرُّقِ وَبَيْنَ الْعِينَةِ إِلا فِي تَحْصِيلِ النَّقْدِ الْحَالِّ فِيهِمَا، وَفِيمَا وَرَاءَهُ مُتَبَايِنَانِ؛ لأَنَّ الْعِينَةَ لا بُدَّ فِيهَا مِنْ رُجُوعِ السِّلْعَةِ إِلَى الْبَائِعِ الأَوَّلِ بِخِلافِ التَّوَرُّقِ، فَإِنَّهُ لَيْسَ فِيهِ رُجُوعُ الْعَيْنِ إِلَى الْبَائِعِ، إِنَّمَا هُوَ تَصَرُّفُ الْمُشْتَرِي فِيمَا مَلَكَهُ كَيْفَ شَاءَ.
* الحكم الشرعي للتورق:
جُمْهُورُ الْعُلَمَاءِ عَلَى إِبَاحَة التورقِ، سَوَاءٌ مَنْ سَمَّاهُ تَوَرُّقًا وَهُمُ الْحَنَبِليَةُ، أَوْ مَنْ لَمْ يُسَمِّهِ بِهَذَا الاسْمِ، وَهُمْ مَنْ عَدَا الْحَنَبِلَيةِ، لِعُمُومِ قَوْله تَعَالَى: )وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبا(([6])، ولقوله صلى الله عليه وسلم: (بِعِ الْجَمْعَ بِالدَّرَاهِمِ ثُمَّ ابْتَعْ بِالدَّرَاهِمِ جَنِيبًا)([7])، وَلأَنَّهُ لَمْ يَظْهَرْ فِيهِ قَصْدُ الرِّبَا وَلا صُورَتُهُ، وَكَرِهَهُ عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ وَمُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ الشَّيْبَانِيُّ.
وَقَالَ ابْنُ الْهُمَامِ: هُوَ خِلافُ الأَوْلَى، وَاخْتَارَ تَحْرِيمَهُ ابْنُ تَيْمِيَّةَ وَابْنُ الْقَيِّمِ لأَنَّهُ بَيْعُ الْمُضْطَرِّ وَالْمَذْهَبُ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ إِبَاحَتُهُ([8]).
َقال المرداوي الحنبلي في الإنصاف: « فائِدَةٌ: لَوْ احْتَاجَ إلَى نَقْدٍ، فَاشْتَرَى مَا يُسَاوِي مِائَةً بِمِائَةٍ وَخَمْسِينَ، فَلا بَأْسَ. نُصَّ عَلَيْهِ. وَهُوَ الْمَذْهَبُ. وَعَلَيْهِ الأَصْحَابُ. وَهِيَ مَسْأَلَةُ التَّوَرُّقِ. وَعَنْهُ يُكْرَهُ، وَعَنْهُ يَحْرُمُ، اخْتَارَهُ الشَّيْخُ تَقِيُّ الدِّينِ. فَإِنْ بَاعَهُ لِمَنْ اشْتَرَى مِنْهُ: لَمْ يَجُزْ. وَهِيَ، الْعِينَةُ. نُصَّ عَلَيْهِ»([9]) .
وقال البهوتي في كشاف القناع: « (وَلَوْ احْتَاجَ إنْسَانٌ إلَى نَقْدٍ فَاشْتَرَى مَا يُسَاوِي مِائَةً بِمِائَةٍ وَخَمْسِينَ، فَلا بَأْسَ) بِذَلِكَ نَصَّ عَلَيْهِ (وَهِيَ) أَيْ هَذِهِ الْمَسْأَلَةُ تُسَمَّى (مَسْأَلَةَ التَّوَرُّقِ) مِنْ الْوَرِقِ وَهُوَ الْفِضَّةُ؛ لأَنَّ مُشْتَرِيَ السِّلْعَةِ يَبِيعُ بِهَا»([10]).
وجاء في أولي النهى: «وَكَذَا لَوْ احْتَاجَ إنْسَانٌ لِنَقْدٍ، فَاشْتَرَى مَا يُسَاوِي مِائَةً بِأَكْثَرَ؛ كَمِائَةٍ وَخَمْسِينَ مَثَلا لِيَتَوَسَّعَ بِثَمَنِهِ؛ فَلا بَأْسَ بِذَلِكَ، نَصَّ عَلَيْهِ، وَهِيَ؛ أَيْ هَذِهِ الْمَسْأَلَةُ تُسَمَّى (مَسْأَلَةَ التَّوَرُّقِ) مِنْ الْوَرِقِ، وَهُوَ الْفِضَّةُ؛ لأَنَّ مُشْتَرِيَ السِّلْعَةِ يَبِيعُ بِهَا، وَيَتَّجِهُ، وَعَكْسُهَا؛ أَيْ : عَكْسُ مَسْأَلَةِ التَّوَرُّقِ ومثْلُهَا فِي الْحُكْمِ، وَهُوَ أَنْ يَحْتَاجَ لِنَقْدٍ، فَيَبِيعَ مَا يُسَاوِي مِائَةً بخَمْسِينَ بِاخْتِيَارِهِ لِيَتَوَسَّعَ بِهَا؛ فَيَجُوزَ ذَلِكَ بِلا نِزَاعٍ، وَهُوَ مُتَّجِهٌ»([11]).
وقال الصنهاجي المالكي في (النظائر في الفقه): « فيمن باع سلعة بثمن إلى أجل، ثم ابتاعها من فوره بثمن أقل منه نقداً من المبتاع منه: أن البيع الثاني باطل، لأنه ذريعه إلى الربا، وكأن السلعة لما رجعت إليه كأنها لم تخرج قط من يده، وإذا لم تخرج من يده، كان ذكر البيع فيها ذريعة إلى دفع قليل في كثير من نوعه إلى أجل، وهو الربا» ثم قال: « ونحن نقول في قياس ذلك: لأنه بيع يتذرع به إلى الربا المحظور، فلم يجز، كما لو قصد إليه. ولها شرائط: وهي أن يكون البائع الأول هو المبتاع، وأن يكون البيع الثاني قريبا من الأول، وأن تكون السلعة واحدة، وأن يكون الثمن المدفوع أقل لا أكثر من المتأخر. والعلة هي صورة الربا مع هذه الشرائط فافهم»([12]).
وجاء في الشرح الصغير للدردير: «(يُمْنَعُ) مِنْ الْبُيُوعِ (مَا أَدَّى لِمَمْنُوعٍ يَكْثُرُ قَصْدُهُ لِلْمُتَبَايِعَيْنِ وَلَوْ لَمْ يُقْصَدْ بِالْفِعْلِ، كَسَلَفٍ بِمَنْفَعَةٍ، أَيْ كَبَيْعٍ أَدَّى إلَى ذَلِكَ؛ كَبَيْعِهِ سِلْعَةً بِعَشْرَةٍ لأَجَلٍ ثُمَّ يَشْتَرِيهَا بِخَمْسٍ نَقْدًا أَوْ إلَى أَجَلٍ أَقَلَّ فَقَدْ آلَ الأَمْرُ إلَى رُجُوعِ السِّلْعَةِ لِرَبِّهَا وَقَدْ دَفَعَ قَلِيلا عَادَ إلَيْهِ كَثِيرًا»([13]) .
وقال أبو منصور الأزهري الشافعي في كتابه: الزاهر في غريب ألفاظ الشافعي الذي أودعه المزني في مختصره: « وأما الزرنقة فهو أن يشتري الرجل سلعة بثمن إلى أجل ثم يبيعها من غير بائعها بالنقد، وهذا جائز عند جميع الفقهاء»([14]) .
وقال الشافعي في الأم: « فإذا اشترى الرجل من الرجل السلعة فقبضها، وكان الثمن إلى أجل، فلا بأس أن يبتاعها من الذي اشتراها منه ومن غيره بنقد أقل أو أكثر مما اشتراها به، أو بدين كذلك، أو عرض من العروض، يساوى العروض ما شاء أن يساوي، وليست البيعة الثانية من البيعة الأولى بسبيل، ألا ترى أنه كان للمشتري في البيعة الأولى إن كان أمة أن يصيبها أو يهبها أو يعتقها أو يبيعها ممن شاء غير بيعه بأقل أو أكثر مما اشتراها به نسيئة، فإذا كان هكذا، فمن حرمها على الذي اشتراها؟! وكيف يتوهم أحد- وهذا إنما تملكها ملكاً جديداً بثمن لها، لا بالدنانير المتأخرة- إن هذا كان ثمناً للدنانير المتأخرة؟! وكيف إن جاز هذا على الذي باعها لا يجوز على أحد لو اشتراها»([15]).
وقال الزيلعي الحنفي في تبيين الحقائق في معرض كلامه عن العينة وشروط فسادها: «وَشَرَطْنَا أَنْ يَكُونَ الشِّرَاءُ مِنْ مُشْتَرِيهِ أَوْ مِنْ وَارِثِهِ؛ لأَنَّهُ لَوْ بَاعَهُ الْمُشْتَرِي مِنْ رَجُلٍ أَوْ وَهَبَهُ لِرَجُلٍ أَوْ أَوْصَى لِرَجُلٍ ثُمَّ اشْتَرَاهُ الْبَائِعُ الأَوَّلُ مِنْ ذَلِكَ الرَّجُلِ يَجُوزُ؛ لأَنَّ اخْتِلافَ سَبَبِ الْمِلْكِ كَاخْتِلافِ الْعَيْنِ، أَصْلُهُ حَدِيثُ بَرِيرَةَ حَيْثُ قَالَ عَلَيْهِ السَّلامُ (هُوَ لَهَا صَدَقَةٌ وَلَنَا هَدِيَّةٌ)، وَشَرَطْنَا أَنْ يَكُونَ الْمَبِيعُ عَلَى حَالِهِ لَمْ يُنْتَقَصْ؛ لأَنَّهُ إذَا تَعَيَّبَ فِي يَدِ الْمُشْتَرِي فَبَاعَهُ مِنْ الْبَائِعِ بِأَقَلَّ مِنْ الثَّمَنِ الأَوَّلِ جَازَ؛ لأَنَّ الْمَانِعَ رِبْحٌ مَا لَمْ يَضْمَنْ.
وَإِنَّمَا يَظْهَرُ الرِّبْحُ إذَا صَارَ إلَيْهِ الْمَبِيعُ، كَمَا خَرَجَ عَنْ مِلْكِهِ فَإِذَا لَمْ يَعُدْ إلَيْهِ كَمَا خَرَجَ عَنْ مِلْكِهِ جُعِلَ النُّقْصَانُ بِمُقَابَلَةِ الْعَيْبِ الْحَادِثِ عِنْدَ الْمُشْتَرِي، فَكَانَ مُشْتَرِيًا مَا بَاعَ بِمِثْلِ الثَّمَنِ الأَوَّلِ مَعْنَى، وَشَرَطْنَا أَنْ يَكُونَ النُّقْصَانُ مِنْ حَيْثُ الذَّاتُ؛ لأَنَّهُ لَوْ نَقَصَتْ قِيمَتُهُ بِتَغَيُّرِ السِّعْرِ لَمْ يَجُزْ شِرَاؤُهُ بِأَقَلَّ مِمَّا بَاعَ ؛ لأَنَّ تَغَيُّرَ السِّعْرِ غَيْرُ مُعْتَبَرٍ فِي حَقِّ الأَحْكَامِ كَمَا فِي حَقِّ الْغَاصِبِ وَغَيْرِهِ، فَعَادَ إلَيْهِ الْمَبِيعُ كَمَا خَرَجَ عَنْ مِلْكِهِ فَيَظْهَرُ الرِّبْحُ، وَشَرَطْنَا اتِّحَادَ الثَّمَنَيْنِ جِنْسًا؛ لأَنَّهُ إذَا اشْتَرَاهُ بِجِنْسٍ آخَرَ غَيْرِ جِنْسِ الثَّمَنِ الأَوَّلِ يَجُوزُ وَإِنْ كَانَ الثَّمَنُ الثَّانِي أَقَلَّ؛ لأَنَّ الرِّبْحَ لا يَظْهَرُ عِنْدَ اخْتِلافِ الْجِنْسِ وَالدَّنَانِيرُ جِنْسُ الدَّرَاهِمِ هُنَا حَتَّى لَوْ كَانَ الْعَقْدُ الأَوَّلُ بِالدَّرَاهِمِ فَاشْتَرَاهُ بِالدَّنَانِيرِ وَقِيمَتُهَا»([16]).
وجاء في شرح العناية على الهداية: «بِخِلافِ مَا إذَا بَاعَهُ مِنْ غَيْرِهِ، لأَنَّ الرِّبْحَ لا يَحْصُلُ لِلْبَائِعِ، وَبِخِلافِ مَا إذَا اشْتَرَاهُ الْبَائِعُ بِوَاسِطَةِ مُشْتَرٍ آخَرَ لأَنَّهُ لَمْ يَعُدْ إلَيْهِ الْمُسْتَفَادُ مِنْ جِهَتِهِ، لأَنَّ اخْتِلافَ الأَسْبَابِ مَنْزِلَةِ اخْتِلافِ الأَعْيَانِ، وَبِخِلافِ مَا إذَا اشْتَرَى بِالثَّمَنِ الأَوَّلِ لِعَدَمِ الرِّبَا، وَبِخِلافِ مَا إذَا اشْتَرَى بِأَكْثَرَ فَإِنَّ الرِّبْحَ، هُنَاكَ يَحْصُلُ لِلْمُشْتَرِي وَالْمَبِيعُ قَدْ دَخَلَ فِي ضَمَانِهِ، وَبِخِلافِ مَا إذَا بَاعَ بِالْعُرُوضِ لأَنَّ الْفَضْلَ إنَّمَا يَظْهَرُ عِنْدَ الْمُجَانَسَةِ، وَبِخِلافِ مَا إذَا تَعَيَّبَ الْمَبِيعُ عِنْدَ الْمُشْتَرِي ثُمَّ اشْتَرَاهُ الْبَائِعُ بِأَقَلَّ مِنْ الثَّمَنِ الأَوَّلِ لأَنَّ النُّقْصَانَ يُجْعَلُ فِي مُقَابَلَةِ الْجُزْءِ الْفَائِتِ الَّذِي احْتَبَسَ عِنْدَ الْمُشْتَرِي، وَبِخِلافِ مَا إذَا اشْتَرَى بِدَنَانِيرَ قِيمَتُهَا أَقَلُّ مِنْ الثَّمَنِ الأَوَّلِ قِيَاسًا، وَهُوَ قَوْلُ زُفَرَ لأَنَّ رِبَا الْفَضْلِ لا يَتَحَقَّقُ بَيْنَ الدَّرَاهِمِ وَالدَّنَانِير، وَفِي الاسْتِحْسَانِ لا يَجُوزُ لأَنَّهُمَا مِنْ حَيْثُ الثَّمَنِيَّةُ كَالشَّيْءِ الْوَاحِدِ، فَيَثْبُتُ فِيهِ شُبْهَةُ الرِّبْحِ»([17]).
وقال الكاساني في البدائع: « وَعَلَى هَذَا يَخْرُجُ مَا إذَا بَاعَ رَجُلٌ شَيْئًا نَقْدًا أَوْ نَسِيئَةً، وَقَبَضَهُ الْمُشْتَرِي وَلَمْ يَنْقُدْ ثَمَنَهُ - أَنَّهُ لا يَجُوزُ لِبَائِعِهِ أَنْ يَشْتَرِيَهُ مِنْ مُشْتَرِيهِ بِأَقَلَّ مِنْ ثَمَنِهِ الَّذِي بَاعَهُ مِنْهُ عِنْدَنَا، وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ يَجُوزُ»([18]).
* القول الراجح عندي في حكم التورق:
بعد استعراض آراء الفقهاء في التورق ونصوصهم فيه، والأدلة التي اعتمدوا عليها، أرى أن الراجح هو القول بجوازه بدون كراهة عند الحاجة إليه، وكراهته عند عدمها، فالتورق نوع بيع ليس فيه مخالفة لأحكام البيع المطلق، وكل ما فيه أنه شراء ما لا يراد الانتفاع بعينه، بل بقيمته، وهو مثل ما يشتريه التجار لا أكثر من ذلك ولا أقل، فالتجار جميعاً يشترون البضائع بقصد ثمنها وليس بقصد الانتفاع بعينها، ولم يقل أحد من الفقهاء بحرمة ذلك، بل هو عين التجارة التي أباحها الله تعالى بقوله: )يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إِلا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ وَلا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيماً(([19]) كل ما هنالك أن التاجر يشتري وهو يرجو الربح، وهذا يشتري ويقصد الاستفادة من ثمن مشترياته بعد بيعها لأسباب أخرى، وهو فارق غير مؤثر.
وأما وصيتي بأن لا يتوسع فيه لغير حاجة وإلا كره، فلأن فيه اختلاف الفقهاء، وما كان كذلك فلا ينبغي التوسع فيه مراعاة لهذا الاختلاف، ولأن التوسع فيه قد يجر المتاعب والمآسي على من يقوم به ويمتهنه، ومن هنا جاء تخوفي منه، وقولي بكراهته، ووصيتي بعدم التوسع فيه.
* الفارق بين التورق والعينة، وحكم العينة:
والفرق جلي بين التورق والعينة، فالعينة شراء السلعة ثم بيعها للبائع نفسه بثمن أقل قبل توفيته الثمن، فكان فيها شبهة الربا واضحة، حيث إن البائع الأول يبيع بثمن معين فيصبح دائناً للمشتري بالثمن المتفق عليه، فإذا اشتراها منه بأقل من الثمن الأول قبل استيفائه الثمن الأول منه كان مديناً بهذا الثمن، فكأنه أقرض المشتري الأول قرضاً ثم استوفاه أكثر منه، على خلاف التورق، فالبيع فيه لمشتر ثالث وليس للمشتري الأول، وهذا شرطه، فلا يتأتى فيه ما تأتى في العينة.
والعينة محرَّمة عند أكثر الفقهاء، قال ابن قدامة بعد أن نص على عدم جواز العينة: « وهو قول أكثر أهل العلم »، وقال في الإنصاف: «(وَمَنْ بَاعَ سِلْعَةً نَسِيئَةً لَمْ يَجُزْ أَنْ يَشْتَرِيَهَا بِأَقَلَّ مِمَّا بَاعَهَا نَقْدًا، إلا أَنْ تَكُونَ قَدْ تَغَيَّرَتْ صِفَتُهَا)، هَذِهِ مَسْأَلَةُ الْعِينَةِ، فِعْلُهَا مُحَرَّمٌ عَلَى الصَّحِيحِ مِنْ الْمَذْهَبِ، نُصَّ عَلَيْهِ، وَعَلَيْهِ الأَصْحَابُ، وَعِنْدَ أَبِي الْخَطَّابِ: يَحْرُمُ اسْتِحْسَانًا، وَيَجُوزُ قِيَاسًا، وَكَذَا قَالَ فِي التَّرْغِيبِ: لَمْ يَجُزْ اسْتِحْسَانًا، وَفِي كَلامِ الْقَاضِي وَأَصْحَابِه: الْقِيَاسُ صِحَّةُ الْبَيْعِ، قَالَ فِي الْفُرُوعِ: وَمُرَادُهُمْ أَنَّ الْقِيَاسَ خُولِفَ لِدَلِيلٍ رَاجِحٍ، فَلا خِلافَ إذًا فِي الْمَسْأَلَةِ»([20]).
وقد اختلف علماء الحنفية في تعريف العينة وحكمها، قال ابن عابدين: « مطلب في بيع العينة، قوله: (في بيع العينة) اختلف المشايخ في تفسير العينة التي ورد النهي عنها. قال بعضهم تفسيرها أن يأتي الرجل المحتاج إلى آخر ويستقرضه عشرة دراهم ولا يرغب المقرض في الإقراض طمعاً في فضل لا يناله بالقرض فيقول: لا أقرضك ولكن أبيعك هذا الثوب إن شئت باثني عشر درهماً وقيمته في السوق عشرة ليبيعه في السوق بعشرة، فيرضى به المستقرض، فيبيعه كذلك، فيحصل لرب الثوب درهمان وللمشتري قرض عشرة.
وقال بعضهم: هي أن يُدخلا بينهما ثالثاً فيبيع المقرض ثوبه من المستقرض باثني عشر درهماً ويسلمه إليه ثم يبيعه المستقرض من الثالث بعشرة ويسلمه إليه ثم يبيعه الثالث من صاحبه وهو المقرض بعشرة ويسلمه إليه ويأخذ منه العشرة ويدفعها للمستقرض فيحصل للمستقرض عشرة ولصاحب الثوب عليه اثنا عشر درهما، كذا في المحيط.
وعن أبي يوسف: العينة جائزة مأجورٌ من عمل بها، كذا في مختار الفتاوى. هندية.
وقال محمد بن الحسن: هذا البيع في قلبي كأمثال الجبال ذميم اخترعه أكلة الربا. وقال عليه الصلاة والسلام: (إِذَا تَبَايَعْتُمْ بِالْعِينَةِ وَأَخَذْتُمْ أَذْنَابَ الْبَقَرِ وَرَضِيتُمْ بِالزَّرْعِ وَتَرَكْتُمْ الْجِهَادَ سَلَّطَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ ذُلا لا يَنْزِعُهُ حَتَّى تَرْجِعُوا إِلَى دِينِكُمْ)([21]).
قال في الفتح: ولا كراهة فيه إلا خلاف الأولى، لما فيه من الإعراض عن مبرة القرض ا هـ ط. ملخصا»([22]).
والراجح عندي تحريم العينة، لما تقدم من الحديث الشريف، وهو مذهب أكثر الفقهاء، ولشبهها بالربا، ولأن المعروف عند الفقهاء أن شبهة الربا حرام كالربا.
التَّـوَرُّق المُنَظَّم
ما تقدم هو حكم التورق الفردي بحسب ما نص عليه الفقهاء، حيث لم يكن العمل في التورق شائعاً بتوسع في العصور السابقة، وإن كان موجوداً التعامل به في النطاق الفردي، أما الآن في العصر الحاضر، وبعد قيام البنوك الإسلامية وشركات الاستثمار الإسلامية، فقد عمد الكثير من هذه البنوك والشركات إلى التعامل بالتورق على نطاق واسع وبمئات الملايين، حتى عد التورق الطريق الأمثل لاستثمار المال في هذه البنوك والشركات، ونتج عن ذلك توسع التجارة الإسلامية توسعاً كبيراً، وهذا شيء إيجابي لما فيه من تقليص التعامل بالربا المحرم في البنوك الربوية، ولكنه تسبب في الوقت نفسه بأمور ضارة كثيرة، حيث ملئت بسبب تسهيل ذلك التورق السجون في كثير من البلدان الإسلامية بالمدينين الذين تورقوا لدى البنوك والشركات الإسلامية من أجل شراء الكثير من الكماليات، ثم عجزوا عن دفع أقساطها، فحكم عليهم بالسجن، وكذلك فإن كثيراً من الشركات قامت على رأس مال قليل وسَّعته عن طريق التورق، ثم حصل كساد لأسباب معينة، فتعذر عليهم الوفاء بالأقساط المترتبة عليهم بسبب هذا التورق، فأفلسوا أو نكبوا، وثارت حولهم الدعاوى والمشكلات، وهذا ما دفعني إلى ترجيح القول بجواز التوسع في التورق لدى البنوك والشركات الإسلامية أصلاً، ولكن مع الكراهة، وذلك درءاً وتوقياً لحدوث مثل هذه النكبات والكبوات، إلى جانب مخالفات شرعية وقعت فيها هذه الشركات في أثناء تطبيق التورق في معاملاتها، إما لجهل بأحكام التورق، وإما لاستهتار في تطبيقه، ولذا فإنني سوف أبين طرق وأصول التورق المنظم في هذه الشركات والبنوك الإسلامية، ثم أسلط الضوء على مواطن الخلل فيها، ثم اقتراح الحلول المناسبة.
* الخطوات المتبعة في الشركات والبنوك الإسلامية في إجراء عملية التورق:
عندما يحتاج إنسان أو شركة أو مؤسسة أو.... إلى مبلغ من المال لشراء سلعة أو إقامة تجارة أو .... ولا يجد المبلغ الكافي في ماله، ولا يرتضي الاقتراض بالربا توقياً لحرمته، يعمد إلى بعض البنوك الإسلامية أو الشركات الإسلامية التي تتعامل بالتورق الإسلامي، ليحصل منها على المبلغ الذي يحتاج إليه، فيتقدم نحو هذه الشركة أو البنك بطلب الحصول على المبلغ المطلوب، وبعد موافقة الشركة على تلبية طلبه تتجه الشركة أو البنك معه لاتخاذ الخطوات التالية:
1) أخذ تعهد منه على أنهم إذا اشتروا سلعة ما بقيمة ما يحتاجه من النقد أن يشتريها منهم بالأجل، وقد يبينون له هذه السلعة وقد لا يبينونها له، لأن ذلك لا يهمه، حيث إن مقصده قيمة ما يبيعونه له وليس عينه، وذلك ضماناً لعدم اعتذاره عن شراء السلعة منهم بعدما يتورطون في شرائها من أجل بيعها له، وهذا قد يلحق بهم ضرراً، لإمكان أن لا يجدوا من يشتريها منهم بعد ذلك.
2) بعد ذلك يقوم البنك أو الشركة بشراء مادة ما من السوق تساوي قيمتها المبلغ الذي يحتاجه هذا الطالب للتورق منهم، ثم يقبضونها أو لا يقبضونها في بعض الأحوال.
3) ثم يقومون ببيع هذه السلعة له بعقد يسجلونه بينهم وبينه بثمن مؤجل ومقسط بحسب الاتفاق بينهم وبينه، وبحسب ما تقتضيه مصلحته وإمكاناته المالية في المستقبل، وقدرته على الوفاء بهذا الثمن المقسط.
4) ثم يأخذون منه توكيلاً ببيع هذه السلعة عنه للغير نقداً بسعر أقل مما باعوها له به، ويعدونه بدفع ثمن هذه السلعة له في وقت لاحق قريب، ربما بعد يوم أو يومين غالباً.
5) ثم يحضر المستفيد (المتورق) إليهم ويأخذ ثمن هذه السلعة منهم بعدما يكونون قد باعوها بالوكالة عنه.
6) ثم يقوم هو بعد قبض المبلغ منهم بالتصرف به وشراء ما يحتاجه، أو الاتجار به، بحسب ما يراه من المصلحة.
7) ثم يقوم هو بوفاء ثمن السلعة المقسط إليهم في مواعيدها المتفق عليها بينه وبينهم مسبقاً.
وهكذا يكون البنك أو الشركة الإسلامية قد حققا ربحاً مناسباً، وهو الفرق بين ثمن السلعة الذي دفعوه عند شرائها نقداً، وثمنها الذي قبضوه من المتورق مقسطاً بعد بيعها له ووفائه بالأقساط في مواعيدها، ويكون المتورق قد كسب أيضاً وهو الحصول على النقد اللازم لقضاء حوائجه أو إنقاذ أو زيادة تجارته.
* مواطن الخلل في التورق المنظم الذي تمشي عليه عامة البنوك والشركات الإسلامية:
1) الملحوظة الأولى هي الوعد بالشراء الذي يأخذه البنك أو الشركة على المتورق بأن يعد وعداً جازماً بشراء السلعة منهم على وفق ما تقدم.
هذا الوعد غير ملزم عند أكثر الفقهاء، والبنك والشركة يعدانه ملزماً، وإلا لم يستفيدوا منه، وهو غير محتاج إليه في نظري؛ ذلك أن للبنك أو الشركة أن يشتري السلعة المطلوبة ويشترط لنفسه على البائع خيار الشرط يوماً أو أكثر بحسب ما يراه، فإن جاء المتورق واشترى السلعة منهم فبها، وإلا فيردونها للبائع بخيار الشرط، وهو موضوع متفق على جوازه لدى عامة الفقهاء، وبذلك نتخلص من مخالفة أكثر الفقهاء المتقدمة في جواز الوعد الملزم، ولو أن البنك أو الشركة أخذا من المتورق وعداً غير ملزم لجاز، ولما بقي محل للاختلاف.
2) يشتري البنك أو الشركة السلعة المطلوب التورق فيها، ثم يبيعها للمتورق قبل قبضها في أغلب الأحوال، وهذا مخالف لما عليه جمهور الفقهاء أيضاً، لحديث النبي r (عَنْ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ قَالَ: نَهَى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ بَيْعَتَيْنِ فِي بَيْعَةٍ، وَعَنْ بَيْعٍ وَسَلَفٍ، وَعَنْ رِبْحِ مَا لَمْ يُضْمَنْ، وَعَنْ بَيْعِ مَا لَيْسَ عِنْدَكَ)، وقال ابن قدامة في المغني: « روى عبد الله بن عمر أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن ربح ما لم يضمن، وعن بيع ما لم يقبض، وعن بيعتين في بيعة، وعن شرطين في بيع، وعن بيع وسلف»([23]). ولو أن البنك أو الشركة امتنعا عن البيع قبل القبض لم يتكلفا بذلك أمراً معنتا.
3) يأخذ البنك أو الشركة من المتورق توكيلاً ببيع السلعة المتورق فيها عنه بعد شرائها وبيعها له، وذلك جائز ما دام غير مشترط في عقد البيع أصلاً، وهذا أمر لا شبهة فيه ولا مانع منه شرعاً، ولكنه ذريعة لحصول مخالفات، فكثيراً ما يحصل من بعض الموظفين، عن قصد أو خطأ أو جهل، أن يبيعوا السلعة بثمن يخفونه عن المتورق، ويعطونه أقل منه دون أن يعلم هو بذلك، فيكون ذلك طريقاً إلى الغش والكسب الحرام والإضرار بالمتورق، ثم إن هؤلاء الموظفين أحيانا يبيعون السلعة إلى من اشتروها منه نفسه، وبذلك يدخلون في بيع العينة المحرم لدى أكثر الفقهاء، ولو أنهم دَلُّوا المتورق على من يشتري السلعة منه دون أن يقوموا هم بالوكالة عنه ببيعها، فذهب إليه وباعه إياها بنفسه، لكان أفضل للمتورق ولو ببعض العناء القليل، وأبعد عن شبهة الغش والعينة وأكل أموال الناس بالباطل، ولا يقال هنا: لا مانع من بيع البنك أو الشركة هذه السلعة لمن اشتروها منه بعدما باعوها للمتورق، لأن هذا البائع الأول ليس هو البائع للمتورق، ولأنه قد أخذ ثمن السلعة كاملاً، والجواب أن هذا صحيح من الناحية الظاهرية فقط، والحقيقة أن هذا البائع الأول هو بمثابة بائع مباشر للمتورق، لأن البنك هنا بمثابة وكيل عن البائع وليس بائعاً حقيقياً له.
4) ثم إن التوسع في بيع التورق أنشأ منشآت كبرى لشراء هذه السلع من المتورقين أو من البنوك والشركات التي تنوب عن المتورقين في البيع، فأدى ذلك إلى احتكار هذه السلع والتلاعب في أثمانها، وربح كثير من التجار أرباحاً كبرى على حساب خسارة المتورقين (التكييش) وهو ما لفت أنظار كثير من الحكومات فمنعت التورق أصلاً لسد باب التكييش هذا.
5) إن التوسع من قبل الشركات والبنوك في بيع التورق ورَّط الكثير من الناس في شراء أشياء لا ضرورة لهم إليها ولا حاجة ماسة، مما أوقعهم في الديون التي عجزوا عن وفائها وملأت السجون منهم، كما أوقع الكثير من التجار في ديون كبيرة في سبيل توسيع تجاراتهم، وانتهوا إلى التفليس.
* ما رجح عندي من حكم التورق:
بعد ذلك كله أرى أن يقال في التورق: هو مباح للأفراد (التورق الفردي) إذا استوفى شروط وأركان البيع الشرعية، في حدود حاجاتهم الأساسية بدون كراهة، ومباح لعامة الشركات والناس والتجار (التورق المنظم) إذا استوفى هذه الشروط مع الكراهة، وذلك لما تقدم من الأخطاء والمحاظير التي تستوجب في نظري الكراهة لأضرارها، لا التحريم، لاستيفائها شروط البيع لدى بعض الفقهاء على الأقل، وذلك بعد أخذ ملحوظاتي السابقة بعين الاعتبار، وإلا فالكراهة تحريمية قريبة من الحرام، وفي كل الأحوال البيع صحيح، والتورق صحيح .
مخاطر التورق وأثره في الأزمة المالية العالمية
الأزمة المالية العالمية شملت كل الدنيا وكل الشعوب وكل الدول وكل الشركات والمؤسسات المالية تقريباً، ولم ينج منها أحد، وإن كانت نسبة الإصابة مختلفة، وأقل المؤسسات المالية تأثراً بهذه الأزمة هي المؤسسات المالية الإسلامية، ولكن لا يمكننا أن نقول: إن التورق هو السبب في ذلك، وفي الوقت نفسه لا يمكن أن نقول أيضاً إن التورق بريء من التسبب في هذه الأزمة المالية.
فالتورق نفسه في نطاق الأفراد وضروريات الناس وحاجاتهم الأساسية لا يمكن أن يكون من أسباب الأزمة المالية الحالية بحال من الأحوال، ولكن التوسع في التورق هو من أسباب هذه الأزمة، ذلك أن البعض بل الكثير من التجار توسعوا في التورق، وأضحوا مدينين بديون كبيرة لهذه المؤسسات التي تورقوا عن طريقها، ثم نتيجة ظروف كثيرة لا يمكن حصرها الآن، عجزوا عن الوفاء بديونهم الناتجة عن تورقهم، فأفلسوا، وشكلوا بذلك جانباً ليس بقليل من أسباب هذه الأزمة المالية العالمية.
يشهد لذلك منع كثير من الدول التكييش، وهو نتيجة حتمية تقريباً عن التوسع في التورق، وما ذلك إلا لأضرار كثيرة تسبب فيها ذلك التورق وذلك التكييش الناتج عنه.
ولأن السجون في كثير من الدول التي توسع أهلها في التورق ملئت بالمساجين العاجزين عن دفع الديون التي عليهم نتيجة التوسع في التورق، بل إن بعض الدول اضطرت إلى إصدار قوانين وتعليمات تمنع سجن المدين العاجز عن الوفاء بدينه درءا لهذه المفسدة، وتقليلاً من خطرها.
* حجم الاستثمار في التورق لدى المؤسسات المالية الإسلامية:
ليس لديَّ إحصائية دقيقة في حجم المال المستخدم في التورق في البنوك والشركات الإسلامية، ولكن المؤكد هو أن بعض البنوك والشركات الإسلامية لم تتعامل بالتورق أصلاً، ومن ذلك البنك الإسلامي الأردني، والبنك الإسلامي الدولي الأردني، وبعضها أغرق في الاعتماد على التورق، حتى وصل التورق عنده إلى نسبة 80% من استثماراته، ومن ذلك البنك الأهلي السعودي تحت اسم «تيسير»([24])، وبعضها توسط في ذلك، ومنها الشركة الأولى للاستثمار، حيث بلغت نسبه تورقها 50%.
* مناقشة قرارات المجمع الفقهي الدولي حول التورق:
درس المجمع الفقهي الدولي المنبثق عن منظمة العالم الإسلامي في دورته المنعقدة في دولة الإمارات العربية المتحدة من 1-5 من جمادى الأولى عام 1430هـ الموافق 26-30 من نيسان عام 2009م، بعد اطلاعه على قرارات المجمع الفقهي الإسلامي التابع لمنظمة العالم الإسلامي بمكة المكرمة بهذا الخصوص، التورق، وقرر ما يلي:
أولا: أنواع التورق وأحكامها:
1) التورق في اصطلاح الفقهاء هو شراء شخص (المستورق) سلعة بثمن مؤجل من أجل أن يبيعها نقدا بثمن أقل غالباً إلى غير من اشتريت منه بقصد الحصول على النقد، وهذا التورق جائز شرعاً، شرط أن يكون مستوفياً لشروط البيع المقررة شرعاً.
2) التورق المنظم في الاصطلاح المعاصر هو شراء المستورق سلعة من الأسواق المحلية أو الدولية أو ما شابهها بثمن مؤجل يتولى البائع (الممول) ترتيب بيعها إما بنفسه أو بتوكيل غيره أو بتواطؤ المستورق مع البائع على ذلك، وذلك بثمن حال أقل غالباً.
3) التورق العكسي هو صورة التورق المنظم نفسها مع كون المستورق هو المؤسسة، والممول هو العميل.
ثانيا: لا يجوز التورقان (المنظم والعكسي) وذلك لأن فيهما تواطؤاً بين الممول والمستورق صراحة أو ضمنا أو عرفاً، تحايلاً لتحصيل النقد الحاضر بأكثر منه في الذمة وهو ربا.
ويوصي بما يلي:
أ ) التأكيد على المصارف والمؤسسات المالية الإسلامية باستخدام صيغ الاستثمار والتمويل المشروعة في جميع أعمالها، وتجنب الصيغ المحرمة والمشبوهة، التزاماً بالضوابط الشرعية، بما يحقق مقاصد الشريعة الغراء، ويجلي فضيلة الاقتصاد الإسلامي للعالم الذي يعاني من التقلبات والكوارث الاقتصادية المرة تلو الأخرى.
ب) تشجيع القرض الحسن لتجنيب المحتاجين للجوء للتورق، وإنشاء المؤسسات المالية الإسلامية صناديق للقرض الحسن.
والله تعالى أعلم.
* التعليق على قرارات المجمع الفقهي الإسلامي حول التورق:
عرَّف هذا القرار وللمرة الأولى في هذا المؤتمر التورق، وبين أنواعه وأحكامه بحسب ما توصل إليه من دراسة واستماع للبحوث التي قدمت إليه في هذه الجلسة، وفي هذا القرار –في نظري- بعض الإيجابيات، وبعض السلبيات، أبينها فيما يلي:
فأما الإيجابيات فمنها:
1) تعريفه التورق المتداول الآن بتعريف سهل واضح أظهر فيه حقيقته، فكان جامعاً مانعاً.
2) أنه بيَّن أنواع التورق، وقسَّمه إلى ثلاثة أقسام: تورق فقهي فردي، وتورق منظم، وتورق عكسي، وفي ذلك توضيح لأقسام التورق المتعارف عليها الآن، مما يسهل للباحث التعرف عليه وتبين مركباته.
أما السلبيات فمنها:
1) أنه فرق في الحكم تفريقاً كبيرا بين التورق الفردي والتورق المنظم، فأجاز الأول ومنع الثاني، مع أن الشبه بينهما كبير جداً في حقيقة الأمر، والفارق القليل بينهما غير مؤثر في الحكم في نظري، ذلك أن الفارق –كما ذكر المجمع آنفاً- أن التورق المنظم فيه تحايل صريح أو ضمني أو عرفي على تحصيل النقد الحاضر بأكثر منه في الذمة وهو ربا، مع أن هذا التحايل لا يقلب التورق من مباح إلى ممنوع، أخذاً –في نظري- مما ثبت من أن النبي r أنكر على من يبيع التمر الجنيب بالتمر الحشف الصاع بالصاعين والصاعين بالثلاثة، وأرشد إلى بديل عنه يحقق الغرض نفسه وهو البيع بالدراهم والشراء بالدراهم. فقد روى النسائي فقال: (أَخْبَرَنَا هِشَامُ بْنُ عَمَّارٍ عَنْ يَحْيَى وَهُوَ ابْنُ حَمْزَةَ قَالَ حَدَّثَنَا الأَوْزَاعِيُّ قَالَ حَدَّثَنِي يَحْيَى قَالَ حَدَّثَنِي عُقْبَةُ بْنُ عَبْدِ الْغَافِرِ قَالَ حَدَّثَنِي أَبُو سَعِيدٍ قَالَ: أَتَى بِلالٌ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِتَمْرٍ بَرْنِيٍّ فَقَالَ: مَا هَذَا؟ قَالَ: اشْتَرَيْتُهُ صَاعًا بِصَاعَيْنِ. فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أَوِّهْ عَيْنُ الرِّبَا لا تَقْرَبْهُ)، وفي رواية الشيخين: (عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ اسْتَعْمَلَ رَجُلا عَلَى خَيْبَرَ فَجَاءَهُ بِتَمْرٍ جَنِيبٍ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أَكُلُّ تَمْرِ خَيْبَرَ هَكَذَا؟ قَالَ: لا وَاللَّهِ يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنَّا لَنَأْخُذُ الصَّاعَ مِنْ هَذَا بِالصَّاعَيْنِ، وَالصَّاعَيْنِ بِالثَّلاثَةِ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: لا تَفْعَلْ بِعْ الْجَمْعَ بِالدَّرَاهِمِ ثُمَّ ابْتَعْ بِالدَّرَاهِمِ جَنِيبًا) . ولا يخرج هذا التورق عن ذلك التصرف، ولم يقل أحد بتحريم بيع التمر وشرائه بالنقد وإن كان في النتيجة يوصل إلى مبادلة التمر بالتمر مع التفاوت في الوزن، وهو عين الربا، ولو نص المجمع على أن التورق الفردي جائز من غير كراهة، والتورق المنظم جائز مع الكراهة، لكان لتفريقه معنى ظاهراً، وهو أن التورق الفردي لا يستقطب من المال العام إلا القليل، أما التورق المنظم فيستقطب من المال العام الكثير، وهو واحد من أسباب الأزمة المالية الحالية بالجملة، وهذا لا يقتضي بطلانه أو تحريمه، لاكتمال شروط صحته كالتورق الفردي تماماً، وإنما يقتضي كراهته فقط محافظة على المال العام.
2) ومنها أنه حرَّم التورق العكسي، وسوَّى فيه بين أن يكون على مستوى فردي أو مستوى جماعي منظم، وهو غير صحيح أيضاً، لأن التورق العكسي الفردي هو التورق الفردي السابق نفسه من غير أي فارق مؤثر بينهما، والفارق الوحيد بين التورق الفقهي والتورق العكسي هو تغاير المتبايعين، ففي الأول المشتري هو العميل، وفي الثاني المشتري هو المؤسسة المالية الإسلامية، وهو بكل تأكيد فارق غير مؤثر، مما يقتضى اشتراكهما في الإباحة، لا التفريق بينهما في الحكم، بإجازة الأول ومنع الثاني، ولو أنه نص على جوازهما، وكره التورق العكسي المنظم دون التورق العكسي الفردي، لأصاب فيما نص عليه.
وعليه فالذي أراه - مع كامل تقديري واحترامي للمجمع الفقهي- أن هذا القرار جانبه الصواب في كل بنوده، وأن الصحيح في اجتهادي أن ينص على ما يلي:
التورق الفقهي الفردي إذا استوفى شروط البيع الشرعية جائز من غير كراهة، وكذلك التورق العكسي الفردي، أما التورق المنظم فصحيح مكروه، ومثله التورق العكسي المنظم، هذا إذا استدركت فيه الملحوظات التي أشرت إليها سابقاً، وإلا فالكراهة فيه أشد، وقد تصل للكراهة التحريمية القريبة من الحرام، ولكن لا تصل لبطلان العقد أو تحريمه.
وإذا ثبت لولي الأمر في بلد ما من بلاد المسلمين أن للتورق المنظم في البنوك والشركات الإسلامية أضراراً واسعة، فلولي الأمر (السلطات المختصة في البلد) أن يصدر أمره بمنعه والمعاقبة عليه، فإذا حصل ذلك أصبح ممنوعاً شرعاً، ومن يخالف ذلك يستحق العقوبة التعزيرية التي يراها ولي الأمر، ومع ذلك لا يمكن أن يعد فاسداً إذا ما عقد على أصوله وشروطه الشرعية، فالمنع مع استحقاق العقوبة شيء، وفساد العقد شيء آخر، وقد ثبت أن عمر بن الخطاب t منع الناس من ذبح المواشي في أيام معينة من كل أسبوع بسبب ندرة اللحوم وضيق ذات اليد لدى عامة المسلمين في ذلك الوقت، وكان يعاقب على من يخالف ذلك، ولم يقل أحد بنجاسة لحم الذبيحة المخالفة.
وأما ما جاء في القرار المذكور من توصيات للتوسع في الإقراض الحسن، فهو جيد جداً، ولو تم لفرَّج عن كثير من المعسرين، ولكنه غير عملي، وغير قابل للتطبيق، ذلك أن الفقير غالباً ما يعجز عن وفاء دينه فيقع في الحرج، فتكون الزكاة والصدقة هي الحل الصحيح لمشكلته، والغني غنيٌّ عن الاقتراض أصلاً، وغير محتاج إليه غالباً، فلا يبقى مجال للتطبيق إلا للأغنياء إذا ما أعسروا يوماً لظرف طارئ، فهؤلاء يكون القرض الحسن معيناً لهم على القيام من كبوتهم الطارئة، وهم قليل في الغالب.
والله تعالى أعلم.
الثلاثاء 25 صفر 1431هـ و 9/2/2010م
أ.د.أحمد الحجي الكردي