الإنسان في الدنيا .. بين معمر ومفارق
جاءت وسطية ديننا الحنيف في تنظيم حياة المسلم بين كونه معمراً للدنيا، يبغي الخير والإحسان لكل الإنسانية، من غير أن يكون ذلك على حساب الآخرة، ومعمراً للآخرة على وجه لا يجعله يعتزل العالم، فيعمر الدنيا مع وضع الآخرة نصب عينيه..
حول هذه المعاني التقينا بالأستاذ الدكتور أحمد الحجي الكردي الخبير بالموسوعة الفقهية الكويتية، وعضو لجنة الفتوى بوزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية، وأجرينا معه الحوار التالي...
• بداية فضيلة الدكتور – حفظكم الله تعالى – يقول تعالى {وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الآخِرَةَ وَلا تَنسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا وَأَحْسِن كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ وَلا تَبْغِ الْفَسَادَ فِي الأَرْضِ إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ} فهذا تلخيص للحالة التي يجب أن يكون عليها المسلم في حياته، كيف ذلك؟
بسم الله والحمد والصلاة والسلام على رسول الله محمد بن عبد الله وعلى آله وصحبه الكرام وبعد ،، فهذا الأمر الإلهي من رب العالمين تبارك اسمه يحدد للإنسان الماهية التي يجب أن يكون عليها في هذه الحياة الدنيا، فيخاطب الإنسان قائلاً له: يا ابن الإسلام هذه النعم التي حباك الله تعالى بها وهي محيطة بك، من أرض وسماء وشجر وماء وكل متطلبات الحياة، كل هذه العطايا من رب السموات عليك أن تجعلها سبلاً للآخرة وجنتها، وطريقاً لها، وفي الوقت نفسه لا تعتزل الناس في معبدك كما يفعل الرهبان، ولكن قدم للناس والإنسانية ما ينفعها، قدم لها الرفعة والرقي والتقدم، وابعد عنها الإفساد في الأرض، على خلاف ما يفعله من لا يرقبون في مؤمن إلا ولا ذمة، وأن يكون هذا العطاء منك يرتقي إلى درجة الإحسان، ويكون نابعاً من إحسان الله إليك، وابعد نفسك أيها الإنسان عن كل ما يفسد في الأرض، لأن ربك الكريم لا يحب هؤلاء المفسدين، أياً كانت صورة هذا الإفساد، وعلى ذلك تكون حالة الإنسان المسلم التي يجب أن يكون عليها، بين معمر في الدنيا ولكن يبتغي بذلك وجه الله تعالى ورضاه .
• فضيلة الدكتور – حفظكم الله - تناولت الآية الكريمة مسألة إعمار الدنيا .. فكيف تكون مسألة الإعمار والاستخلاف في الأرض، دون أن يكون ذلك على حساب الآخرة؟
قضت حكمة الله تعالى أن يخلق الكون، ويخلق فيه الأرض، ويعمرها بالإنسان، وقضت حكمته سبحانه أن يستمر الإنسان بالتناسل، فوفر له الكثير مما يساعده على ذلك، وجعله سيد الأرض وحاكمها والمخدوم فيها: قال سبحانه: (هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الأَرْضِ جَمِيعاً ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ فَسَوَّاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ وَهُوَ بكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ) (البقرة:29)، وقال جل من قائل: (إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَالْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بمَا يَنْفَعُ النَّاسَ وَمَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ مَاءٍ فَأَحْيَا بِهِ الأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَبَثَّ فِيهَا مِنْ كُلِّ دَابَّةٍ وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ وَالسَّحَابِ الْمُسَخَّرِ بَيْنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ لآياتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ) (البقرة:164)، وقال أيضا: (يَا أَيُّهَا النَّاسُ كُلُوا مِمَّا فِي الأَرْضِ حَلالاً طَيِّباً وَلا تَتَّبعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبينٌ) (البقرة:168) .
ولما كانت إدارة الأرض والاستفادة منها تحتاج إلى نظام لا يمكن أن تعمر بدونه، وإذا أهمل هذا النظام أو خولف فسدت وخربت، أنزل الله تعالى الأنبياء والرسل ليبينوا للناس طرق الاستفادة من هذه الأرض على الوجه الأمثل، فإذا التزموا بذلك نجحوا في إعمارها، وإذا خالفوا فسدت الأرض، وعُدوا بذلك محاربين لله تعالى ورسله، واستحقوا أن يستبدل غيرهم بهم في إعمارها، قال سبحانه: (إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الأَرْضِ فَسَاداً أَنْ يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ مِنْ خِلافٍ أَوْ يُنْفَوْا مِنَ الأَرْضِ ذَلِكَ لَهُمْ خِزْيٌ فِي الدُّنْيَا وَلَهُمْ فِي الآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ) (المائدة:33)، وقال جل من قائل: (أَلَمْ يَرَوْا كَمْ أَهْلَكْنَا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ قَرْنٍ مَكَّنَّاهُمْ فِي الأَرْضِ مَا لَمْ نُمَكِّنْ لَكُمْ وَأَرْسَلْنَا السَّمَاءَ عَلَيْهِمْ مِدْرَاراً وَجَعَلْنَا الأَنْهَارَ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمْ فَأَهْلَكْنَاهُمْ بذُنُوبهِمْ وَأَنْشَأْنَا مِنْ بَعْدِهِمْ قَرْناً آخَرِينَ) (الأنعام:6).
وفي سبيل تيسير ذلك كله وفر الله تعالى في الأرض ما يكفي القائمين عليها من إنس وجن وحيوانات وسائر المخلوقات، فقال سبحانه: (وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِيَ مِنْ فَوْقِهَا وَبَارَكَ فِيهَا وَقَدَّرَ فِيهَا أَقْوَاتَهَا فِي أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ سَوَاءً لِلسَّائِلِينَ) (فصلت:10) ، ثم أمر عباده أن يصنِّعوا هذه الأقوات ويحسنوا الاستفادة منها على الوجه الأكمل، فلا يسرفوا في استهلاكها، ولا يقتروا في الاستفادة منها، ويكونوا حكماء في ذلك، فإذا فعلوا ذلك كفتهم وأغنتهم مهما زاد عددهم، فقال سبحانه: (وَهُوَ الَّذِي أَنْشَأَ جَنَّاتٍ مَعْرُوشَاتٍ وَغَيْرَ مَعْرُوشَاتٍ وَالنَّخْلَ وَالزَّرْعَ مُخْتَلِفاً أُكُلُهُ وَالزَّيْتُونَ وَالرُّمَّانَ مُتَشَابهاً وَغَيْرَ مُتَشَابهٍ كُلُوا مِنْ ثَمَرِهِ إِذَا أَثْمَرَ وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ وَلا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ) (الأنعام:141) ، وقال أيضا: (وَلا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَى عُنُقِكَ وَلا تَبْسُطْهَا كُلَّ الْبَسْطِ فَتَقْعُدَ مَلُوماً مَحْسُوراً) (الإسراء:29) .
• فضيلة الدكتور إذا تطرقنا إلى التفصيل فيما سبق فكيف يكون الإنسان المسلم ابن الآخرة وما العوامل المعينة على ذلك؟
بعد ذلك كله مما تقدم بَيَن الله تعالى للإنسان أنه مخلوق لغاية سامية أعلى من استثماره الأرض، فالله تعالى غني عن ذلك كله، وهو خالق كل شيء، والغني عن كل شيء، قال سبحانه: (وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الآخِرَةَ وَلا تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا وَأَحْسِنْ كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ وَلا تَبْغِ الْفَسَادَ فِي الأَرْضِ إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ) (القصص:77)، وقال جل من قائل: (وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ)(آل عمران: من الآية97)، فالمعنى الأهم في خلق الإنسان وعيشه على الأرض هو عبادة الله تعالى وحده، فقال سبحانه: (وَمَا خَلَقْتُ الْجنَّ وَالأِنْسَ إِلا لِيَعْبُدُونِ، مَا أُرِيدُ مِنْهُمْ مِنْ رِزْقٍ وَمَا أُرِيدُ أَنْ يُطْعِمُونِ، إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ) (الذاريات:56-58)، وقال: (وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الأَرْضِ إِلا عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا وَيَعْلَمُ مُسْتَقَرَّهَا وَمُسْتَوْدَعَهَا كُلٌّ فِي كِتَابٍ مُبينٍ) (هود:6) .
وعلى ذلك فالغاية الأولى لخلق الإنسان هي عبادة الله تعالى وحده، والعبادة الحق هي امتثال أمر المعبود امتثالا كاملا، ومن ذلك إعمار الإنسان الأرض بأمر الله تعالى، ووفق توجيهه سبحانه، وعليه فيكون الإعمار غير مراد لذاته، ولكن لتلبية أمر الله تعالى، ولا يكون كذلك إلا إذا كان على وفق نظام الله تعالى وشرعه.
ومن هنا نعلم أن العمل في الأرض عبادة وليس اقتصادا أو بناء ثروة أو زيادة مال أو... فكل ذلك موجود، ولكن له معنى عاليا أكبر من ظاهره، وهو عبادة الله تعالى واستحقاق جنته، ومن تأخر أو تخلف عن ذلك عوقب بالاستبدال بغيره ممن يعمرها بأمر الله تعالى وشرعه، قال سبحانه: (وَإِنْ تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكُمْ ثُمَّ لا يَكُونُوا أَمْثَالَكُمْ) (محمد: من الآية38).
وقد نبه النبي صلى الله عليه وسلم إلى هذه المعاني العالية والحكم البالغة وبينها بأوضح أسلوب وأفضل طريق، وبين أن الإنسان متعبد في حياته على الأرض، وما طلب منه إعمارها إلا لذلك، فلا يجوز له أن ينشغل في إعمار الأرض عن عبادة الله تعالى، فيجعل الوسيلة غاية والغاية وسيلة، فقال صلى الله عليه وسلم : (كن في الدنيا كأنك غريب أو عابر سبيل) رواه البخاري.
• وهل للإنسان أن يجمع بين النيتين في حياته التي يعيش فيها ، نية العبادة لله تعالى ونية الإعمار في الأرض؟
نعم وبكل تأكيد على ذلك، وهو الذي يجب أن يحرص عليه الإنسان في عيشته التي يحياها، فلا تضارب أبداً بين قيام الإنسان المسلم بالعمل في الأرض، وبين عبادته لله تعالى، ومدار ذلك على النية والقصد والهدف، فمن عمل في الدنيا زراعة أو صناعة أو قدم أي خدمة للآخرين، كالطبيب والمهندس والزارع والصانع و...، فإن نوى فيها عبادة الله تعالى وأخلص في عمله كان متعبدا وممتثلا لأمر الله تعالى ومأجورا عليه، ومستفيدا من نتيجة عمله في الوقت نفسه، ومن عمل لمال أو ربح أو غير ذلك فقد خسر العبادة والمقام العالي في الجنة، قال صلى الله عليه وسلم: (إِنَّمَا الأَعْمَالُ بالنِّيَّاتِ وَإِنَّمَا لِكُلِّ امْرِئٍ مَا نَوَى فَمَنْ كَانَتْ هِجْرَتُهُ إِلَى دُنْيَا يُصِيبُهَا أَوْ إِلَى امْرَأَةٍ يَنْكِحُهَا فَهِجْرَتُهُ إِلَى مَا هَاجَرَ إِلَيْهِ) رواه البخاري. وقال العلماء: (النيات تقلب العادات إلى عبادات)، وقال صلى الله عليه وسلم: (كَمْ مِنْ صَائِمٍ لَيْسَ لَهُ مِنْ صِيَامِهِ إِلا الْجُوعُ وَكَمْ مِنْ قَائِمٍ لَيْسَ لَهُ مِنْ قِيَامِهِ إِلا السَّهَرُ) رواه أحمد والدارمي. والله تعالى أعلم.
وفي الختام نشكر باسمكم الأستاذ الدكتور أحمد الحجي الكردي الخبير بالموسوعة الفقهية الكويتية، وعضو لجنة الفتوى بوزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية، على هذه الوقفات حول موقف الإنسان بين كونه معمراً في الدنيا وقلبه مشغول بالآخرة، ونسأل الله الكريم أن يرزقنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة، وأن يقينا عذاب النار، وصل اللهم على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه الكرام وسلم تسليماً كثيراً.