مجلة "الشريعة والدراسات الإسلامية"
العدد الرابع والأربعون، السنة السادسة عشرة
المتاجرة بأسهم الشركات
غرضها وعملها مباح، لكن تقرض وتقترض من البنك بصفة مستمرة
أ.د. أحمد حجي الكردي
ملخص البحث:
السهم اصطلاحًا: النصيبُ الذي يشترك به المساهم في رأس مال الشركة،
ويتمثل في صَكٍّ يُعطَى للمساهم، يكون وسيلة في إثبات حقوقه في الشركة.
أمَّا خصائصه فهي:
1- قيمة الأسهم متساوية يحددها القانون أو النظام.
2 - تساوي الحقوق بين المساهمين باستثناء الأسهم الممتازة.
3 - أن تكون مسؤولية الشركاء موزعةً بحسب قيمة السهم.
4 - عدم قابليةِ السهم الواحد للتجزئة.
5 - قابلية الأسهم للتداول.
وأمَّا أنواع الأسهم فهي متعددة من حيثيات مختلفة، وهي:
أ - من حيث الحصةُ التي يدفعها الشريك، تنقسم إلى نقديَّة وعينيَّة.
ب - ومن حيث الشكل، تنقسم إلى أسهُم اسميَّة، وأسهُم لحاملها، وأسهُم للآمر.
ج - ومن حيث الحقوق التي تُعْطى لصاحبها، تنقسم إلى أسهم عادية وأسهم ممتازة.
د - ومن حيث إرجاعها إلى صاحبها، تنقسم إلى أسهم رأس مال وأسهم تمتُّع.
وأمَّا قيمة الأسهم فهي مختلفة، وهي: القيمة الاسمية، والقيمة الحقيقيَّة، والقيمة السوقية، والقيمة الإصْدارية.
وأمَّا حكم تداوُل الأسهم شرعًا، فهو أنَّ الشركة ما دامت موافقة للأحكام الشرعية من حيث إنشاؤها، ومن حيث أعمالها، وأنظمتُها وجميع تصرفاتها، فإنَّ بيع وشراء وهِبة أسهمها وتمليكها بكلِّ الطرق الممكنة جائز شرعًا.
وإنَّ مجمع الفقه الإسلامي قد أيَّد ذلك في جدَّة بقرار رقم 65/ 1/ 7 في دورته السابعة.
وإنَّ التعامل مع البنوك بالربا حرامٌ شرعًا، ولا يجوز إلا لضرورةٍ أو حاجةٍ ماسَّة، وإنَّ إقراض الشَّركات للبنوك واقتراضها منها بالرِّبا لا يدخُل تحت دائرة الضَّرورة ولا الحاجة، إلا في أحوالٍ قليلة نادرة، فلا يحلُّ لذلك للشركات عامَّة التعامل بالربا مع البنوك اقتراضًا أو إقراضًا، إلا في تلك الحالات الضيقة جدًّا، وعلى الشركات التي دخْل أموالها ربا أو حرام من أي وجه كان التخلُّص منه فورًا، دون الانتِفاع به بأي وجه كان من وجوه الانتِفاع، وعلى منِ اختلط بِماله شيءٌ من المال الحرام أن يُخْرِجه من ملْكِه فورًا، إمَّا بعيْنِه إذا عرفه، أو بقيمتِه، وكذلك مَن خالط ماله ما به شبهة فإنَّه يُخرِج من ماله بمقدار ما يطمئنُّ إلى أنه أصبح بعيدًا عن الشبهة.
والأصل أنَّه لا ينبغي لأي شركة أو تاجر أن يعمل على توسيع شركته أو أعمالِه التِّجاريَّة إذا لم يكُن واثقًا من وجود المال الحلال الكافي لديْه، وأنَّه لا ينبغي له أن يقترِض من أجل توسيع عمله وتِجارته، ولو بغير فائدة ربويَّة،
فإذا وسَّع دائرة تِجارته ثم احتاج إلى القرض، فإن كان بغير فائدة ربويَّة فهو جائز للحاجة إليْه، وإن كان بفائدة ربويَّة فإن كان من الأصل يعلم أنَّه سيحتاج إلى هذا القرض وبنى توسُّعه عليْه فلا يجوز له الاقتراض بالرِّبا مطلقًا؛ سدًّا لذريعة الاحتيال على الحرام، وإن كان له مالٌ حلال في الأصْل يكفيه لمشروعِه ثمَّ ضاع هذا المال منْه واحتاج إلى الاقْتِراض، فإنَّه يحل له ذلك في حدود الضَّرورة والحاجة بضوابطِهِما لدفْع الخسارة الفاحشة عنه لا لجلْب الربح، فإن تورَّط بالربا من غير ضرورة فإنَّ عليه إنفاق جزء من ماله يعادل ما دخل عليه من الحرام.
يتألَّف البحث من مجموعة محاور كما يلي:
المحور الأول: تعريف السهم، والتكييف الشرعي له
مقدمة:
لم تكن الأسهم بمعناها الدارج الآن معروفةً قبل هذا القرن، وهي وليدةُ النهضة الصناعية الكبرى التي رافقت ظهور الآلة وبروز الشركة الكبرى في الإنتاج الصناعي والزراعي والتجاري، ذلك أن المشروعات التجارية والصناعية والزراعية الحديثة بدأت تنزع للتضخم بغية الحصول على أكبر قدْر من الإنتاج بأقلِّ كلفة ممكنة،
وهذه المشاريع ممَّا تعجز عنه الجهود الفردية ورأس المال الفردي في الغالب، لزيادة كلفتها، مما اقتضى من أرباب الأموال النزوع إلى تجميع أموالهم في شركات كبرى تؤمِّن لهم الغرض المطلوب، والشركة وإن كانت معروفة بأنواعها وأقسامها في الفقه الإسلامي إلا أنَّها لم تكن بهذه الضخامة التي ظهرت فيها في القرن العشرين، مما اقتضى ظهور أنواع جديدة لها، ومنها الشركات المساهمة، بل إن الشركات المساهمة هي أكبرها وأهمها، مما حدا بالمسؤولين عن القوانين والتشريعات الاقتصادية إلى العناية بها عنايةً فائقةً من حيث الإنشاء والأحكام.
والشركات المساهمة هي شركات أموال ذات رأس مال كبير يشترك في تأمينه عدد كبير من التجار والناس، وهي تتكوَّن من أسهم كثيرة يمتلك كلٌّ من الشركاء فيها عددًا يتناسب ورأسَ ماله فيها، إلا أنَّ بعضَ المشتركين قد يَحتاج بعد إنشاء الشركة إلى رأْسِ ماله لتوظيفه في مشروع آخَر أو لإنفاقه في مصالحه الخاصَّة، وفي هذه الحال ليس أمامه إلا طريقان:
الأولى: حلّ الشركة للحصول على حصَّته فيها؛ لأنها عقد غير لازم، وهو سهل في الشركات الصغيرة، ولكنَّه في الشركات الكبيرة عسير.
والثانية: بيع حصَّته في الشركة - سهامه فيها - لباقي المساهمين أو غيرهم، وهي الطريق الأسهل والأيسر.
وقد راجت في الآونة الأخيرة فكرة الاتِّجار بالأسهم، فالتاجر يشتري الأسهم لا يقصد استبقاءَها لجني أرباحها، وإنَّما يقصد بيعها إذا زاد ثمنها، وقد قامت في العالم العديد من أسواق المال للاتجار بهذه الأسهم، وإليْكم بيانًا في تعريف الأسهم وأنواعها وحكم تداولها.
تعريف السهم:
من معاني السهم في اللغة: النصيب، وهو مفرد يُجمَع على: سُهمان، وأسهم، وسِهام، وفي اصطلاح العلماء: هو النصيب الذي يشترك به المُساهم في رأسمال الشركة، ويتمثَّل في صك يعطى للمساهم، يكون وسيلةً في إثبات حقوقه في الشركة.
وللسَّهم خصائص أهمها:
1 - قيمة الأسهم متساوية، يحددها القانون أو النظام، وذلك لتسهيل تقدير الأغلبية في الجمعية العمومية للشركة المساهمة، وتسهيل عملية توزيع الأرباح على المساهمين فيها، وتنظيم سعر السهم في الأسواق التجارية (البورصة).
2 - تساوي الحقوق بين المساهمين باستِثْناء الأسهم الممتازة التي تجيز بعض القوانين إصدارَها من الهيئة العامَّة غير العادية، التي تمنح لأصحابها حق الأولوية في الأرباح أو أموال الشركة عند تصفيتها، أو كليهما، أو أيَّة ميزة أخرى.
3 - أن تكون مسؤولية الشركاء موزَّعة بحسب قيمة السهم، فلا يسأل أحد منهم عن ديون الشركة إلا بمقدار أسهمه التي يملكها.
4 - عدم قابليَّة السهم الواحد للتجزئة، فإذا توفِّي أحد الشركاء عن سهم واحد وورثَتُه متعددون، أصبحت ملكيَّة السهم مشاعة بين الورثة، ويختارون ممثِّلاً عنهم في الجمعية العمومية للمساهمين، ليباشر الحقوق المتَّصلة بالأسهم.
5 - قابلية الأسهم للتداول، وهي أهمُّ خصائص السهم، فإذا نص على خلافها فقدت الشركة المساهمة صفة المساهمة.
أنواع الأسهم:
تنقسم الأسهُم إلى أنواع مختلفة من حيثيَّات متعدِّدة، كما يلي:
أ - فمن حيث الحصة التي يدفعها الشريك، تنقسم إلى نقدية وعينية.
ب - ومن حيث الشكل، تنقسم إلى أسهم اسمية، واسهم لحاملها، وأسهم للآمر.
ج - ومن حيث الحقوق التي تعطى لصاحبها، تنقسم إلى أسهم عادية، وأسهم ممتازة.
د - ومن حيث إرجاعها إلى صاحبها، تنقسم إلى أسهم رأسمال، وأسهم تمتع.
قيمة السهم:
للسهم قيم أربعة هي:
أ - القيمة الاسمية: وهي القيمة التي تسجَّل على السهم، وهي قيمته التي بيع بها عند الإصدار.
ب - القيمة الحقيقيَّة: وهي القيمة التي تساوي النَّصيب الذي يستحقه السهم عند تصفية الشركة، وقد تكون أكبر من القيمة الاسميَّة إذا حقَّقت الشركة أرباحًا، أو أقلَّ منها إذا خسرت الشركة.
ج - القيمة السوقيَّة: وهي قيمة السهم عند عرْضه للبيع في السوق، وهذه تتأثَّر بتحسُّن سمعة الشَّركة ونجاحاتها، أو سوء سُمْعتها وتعثُّرها، وقد تخالف القيمة الحقيقيَّة وقد توافقها.
د - القيمة الإصدارية: وهي قيمة السَّهم الذي تبيعه الشركة نفسُها للغير بأقل من القيمة الاسمية بقصد توسيع رأسمال الشركة[1].
حكم تداوُل الأسهم شرعًا:
ما دام السهم يمثِّل حصَّة مشاعة في الشَّركة، وما دامت الشَّركة موافقةً للأحْكام الشرعيَّة من حيث إنشاؤُها، ومن حيث أعمالُها وأنظمتُها وجميع تصرفاتها، فإنَّ بيعَه وشراءه وهِبته وتمليكه بكل الطرق الممكنة جائز شرعًا؛ لأنَّ بيع الحصَّة المشاعة في أيِّ شركة جائز شرعًا لدى عامَّة الفقهاء في العقار وغيره، ما دامت الحصة معلومة - وهي في السَّهم كذلك - فيجوز، وسواء في ذلك تمَّ البيعُ بحسب القيمة الاسميَّة للسَّهم أو القيمة التِّجاريَّة له أو القيمة الحقيقيَّة أو غير ذلك؛ لأنَّ الأصل أنَّ تحديد ثَمن المبيع شرعًا متروكٌ للعاقدين بِحسب ما يريانِه من المصلحة، ما داما عاقلَين بالغَين رشيديْن، ولا تثريب عليْهِما أن يكون الثَّمن حقيقيًّا أو مبالغًا فيه، وإن كان البيْع بغبن فاحش مكروهًا إلا أنَّه لا يؤثِّر في صحَّة البيع.
قال الحصكفي: "وكل من شركاء المِلك أجنبي في مال صاحبه فصحَّ له بيع حصَّته ولو من غير شريكه بلا إذن"[2].
وقال الشربيني الخطيب: "ويصحُّ بيع صاع من صبرة تُعلم صيعانُها، وكذا إنْ جهله على الأصح..."[3].
وقال البهوتي: "وإن باعه قفيزًا من هذه الصبرة - وهي الكومة المجموعة من طعام وغيره - صح إن تساوت أجزاؤها، وكانت أكثر من قفيز، كبيع كلها أو بيع جزء مشاع منها، كربعها أو ثلثها، سواء علما مبلغ الصبرة أو جهلاه، فيصح البيع للعلم بالمبيع، في الأولى بالقدر، وفي الثانية بالأجزاء"[4].
وجاء في الموسوعة الفقهية ما يلي: "لا خلافَ بين الفقهاء في جواز بيع جزْء مشاع في دار، كالثلث ونحوه، وبيع صاع من صبرة متساوية الأجزاء، وبيع عشَرة أسهم من مئة سهم.
ويصح رهن المشاع من عقار وحيوان، كما يصحُّ بيعُه وهبته ووقْفُه، سواء كان الباقي للرَّاهن أو لغيره؛ إذ لا ضرر على الشريك، وإلى هذا ذهب الجمهور، وذهب الحنفية إلى أنه لا يصح رهن المشاع.
وذهب جمهور الفقهاء إلى جواز هبة المشاع، سواء في ذلك ما أمكن قسمته وما لم يمكن قسمته، وسواء وهبه لشريكه أو لغيره، وقال الحنفية: لا يجوز هبة المشاع شيوعًا مقارنًا للعقد فيما ينقسم، وقيل: يجوز هبته لشريكه، أمَّا إذا كان المشاع غير قابل للقسمة بحيث لا يبقى منتفعًا به إذا قسم فتجوز هبته.
ويجوز إجارة المشاع للشريك باتفاق الفقهاء، أمَّا إجارته لغير الشريك فقد اختلف الفقهاء في صحَّته؛ فذهب المالكية والشافعية إلى صحَّة إجارة المشاع، وهو قول الصاحبين من الحنفية ورواية عن أحمد، وقال أبو حنيفة وزُفَر - وهو القول الرَّاجح عند الحنابلة -: لا تجوز إجارة المشاع.
ويجوز وقْف المشاع عند المالكيَّة والشافعيَّة والحنابلة وأبي يوسف من الحنفيَّة، وقال محمد من الحنفيَّة: "لا يصحُّ وقْف المشاع فيما يقبل القِسْمة، أمَّا ما لا يقبل فيصحُّ وقفُه اتِّفاقًا"[5].
وقد أيَّد هذا الاتِّجاه مجمع الفقه الإسلامي في جدَّة بقراره رقم 65/ 1/ 7 في دورته السابعة، حيث نص على ما يلي: "إنَّ المحل المتعاقد عليه في بيع السَّهم هو الحصَّة الشائعة من أصول الشركة وشهادة السهم عبارة عن وثيقة للحق في تلك الحصَّة".
كما نصَّ على جواز شراء الأسهم بالأقْساط، فقال: "لا مانع شرعًا من أداء قسط من قيمة السهم المكتتب فيه وتأجيل سداد بقية الأقساط؛ لأن ذلك يعتبر من الاشتراك بما عجل دفعه، والتَّواعد على زيادة رأس المال، ولا يترتب على ذلك محذور؛ لأنَّ هذا يشمل جميع الأسهم وتظلُّ مسؤولية الشركة بكامل رأس مالها المعلن بالنسبة للغير؛ لأنَّه هو القدر الذي حصل العلم به من المتعاملين مع الشركة".
كما نصَّ صراحة على جواز بيع السهم ورهنه، فقال: "يجوز بيع السَّهم أو رهنه مع مراعاة ما يقضي به نظام الشركة، كما لو تضمَّن النظام تسويغ البيع مطلقًا أو مشروطًا بمراعاة أولويَّة المساهمين القدامى في الشراء، وكذلك يُعتبر النصُّ في النظام على إمكان الرهن من الشركاء برهن الحصَّة المشاعة"[6].
المحور الثاني:
هل الاستثمار في الأسهم يُعَد استثمارًا ضروريًّا لا يسع المسلمين إلا الولوج فيه؟
أم أن هناك مجالاتٍ أخرى أولى وأجدى بتوجيه الاستثمار إليها؟
تقدَّم أنَّ الشركة في الأموال مشروعة في الإسلام باتِّفاق الفقهاء، وإنِ اختلفوا فيما بينهم في بعض أنواعها وشروطها، وحكمةُ مشروعيتها تكمن في تعاون الشركاء بأموالهم في إقامة مشروعات كبيرة تعجز الأموال القليلة أو الجهود الفردية عن إقامتها، مما ييسر السلع والعروض للمحتاجين إليْها بأحسن حال وبأوْفَر كمية، وبالإضافة إلى توفير أكبر عائد ربحيٍّ ممكن لأصْحاب الأموال المشاركين فيها نتيجةَ قلَّة التَّكلِفة، فإنَّ الشَّركات الإنتاجيَّة كلَّما كبرت كلَّما قلَّت تكلِفة منتجاتها، بالإضافة إلى أنَّ في الشركة ضمَّ خبرات الشركاء بعضهم إلى بعض، مما يرتقي بإنتاج الشركة كمًّا وكيفًا، وكل ذلك مصالح يحرص التشريع الإسلامي عليها.
إلا أن هذا كلَّه يقتضي الشركاء الاستمرار في شركتهم مع بعضهم أكبر قدر ممكن من الوقت؛ لأنَّ هذه المصالح لا تتوافر إلا بذلك غالبًا، إلا أنَّ الفقهاء راعَوا مصلحة بعض الشركاء في سحب مشاركتهم في الشركة إذا احتاجوا إلى ذلك، فنصوا على أن "الشركة من العقود الجائزة غير اللازمة"،
وأجازوا لأيٍّ من الشركاء بيعَ حصته في الشركة متى احتاج إلى ذلك أيضًا، إلا أنَّ ذلك استِثْناء من الأصل، وهو جائز، وليس هو الأصل، ولذلك أستطيع أن أقول: إنَّ الأصل في الأسهُم في الشركات المساهمة أن تُشتَري ليُستفاد من أرباحها سنة بعد سنة وفترة بعد فترة، وليس لتباع بعد يوم أو يومين بغية الاستفادة من ثمنها، مثَلُها في ذلك مثل الذهب والفضة والعملات؛ فإنَّها وضعت شرعًا لتكون أثمانًا ليتَّجر بها، وليس لتكون هي نفسها عروضًا تِجارية تباع وتشترى،
إلا أنَّ الفقهاء بالاتفاق أجازوا بيْعَها وشراءها عند الحاجة، وجعلوا ذلك صنفًا خاصًّا من أصناف البيع مقيَّدًا بقيود خاصَّةٍ تجعله في أضيق الحدود وهو الصرف، والقاعدة أنَّ ما كان على خلاف الأصل لا يُتوسَّع فيه.
ولهذا فإنَّني أرى ألاَّ يتوسع في موضوع بيع الأسهم والاتجار بها في الأسواق المالية وما إليها - مع إباحته بشروطه الشرعية - وأن يقتصر في ذلك على حدود ضيقة لما تقدم، وأن يوجه أصحاب الأموال إلى الاستثمار باحتفاظهم بأسهُمِهم وعدم بيعها إلا عند الحاجة إلى ثمنها،
ولا بأس بأن ينظم أولياء الأمور ذلك ويضعوا له ضوابط وقيودًا تحد منه، على خلاف ما عليه الحال الآن في أسواق المال العالمية، لتنصرف الجهود إلى تَحسين الإنتاج وتوْسيع الشركات لا إلى مطلق الحصول على الرِّبْح، ولو رجعنا إلى تاريخ الأسواق المالية في العالم، ومنها سوق الكويت (المناخ)، لعلِمْنا خطورة المضاربة بالأسهم وآثاره السيئة على الاقتصاد العالمي والاقتصاد الإقليمي.
ثمَّ إنَّ لدى الأغنياء وأصحاب الأموال طرقًا بديلة أُخرى كثيرة لاستثمار أموالهم غير الاتجار بالأسهم، من ذلك السلع المباحة شرعًا بالجملة والتَّجزئة:
1 - التوسع في الشركات المساهمة التجارية والصناعية والزراعية وغيرها.
2 - الاتِّجار بكل أنواع السلع المباحة شرعًا بالجملة والتجزئة.
3 - المضاربة بالمال مع أصحاب الخبرات الذين لا يجدون رأسمال يعملون فيه.
4 - الاتِّجار مع الله - تعالى - في إقامة المؤسسات الخيرية والأوقاف ودور رعاية الأيتام ابتغاء مرضاة الله تعالى، وهو أفضل أنْواع الاستِثْمار لمن كان له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد؛ لأنَّ الربح فيه مضمون وكبير، من عشرة أضعاف رأس المال إلى سبعمائة ضعف، إلى ما لا نهاية له من الأضعاف،
قال تعالى: {مَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِي كُلِّ سُنْبُلَةٍ مِئَةُ حَبَّةٍ وَاللَّهُ يُضَاعِفُ لِمَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ} [البقرة: 261]، هذا بالإضافة إلى ما تعُود به الصدقة عليهم، حيث تدفع إلى الشراء من سلع الأغنياء دون شك، فتروج البضائع وتكثُر الأرباح، وهو معنى قوله تعالى: {يَمْحَقُ اللَّهُ الرِّبَا وَيُرْبِي الصَّدَقَاتِ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ كُلَّ كَفَّارٍ أَثِيمٍ} [البقرة: 276].
المحور الثالث
ما الهدف من المتاجرة بأسهم الشركات الأجنبية التي عادة ما يتوجه استثمار المصارف الإسلامية إليها؟
وهل هناك فرق في الحكم بين ما إذا كانت هذه الشركات في بلاد إسلامية أو كان الهدف في التملك أسلَمَتَها؟
التجارة في الشريعة الإسلامية طريق من طرق العبادة لله تعالى، وهذا أمر يغفل التجار عنه في غالب الأحيان في زحمة الأرباح أو الخسائر، وهو خطأٌ فاحش يجب التنبُّه إليه؛ لأن بالتجارة تتيسَّر السلعة للمحتاج إليها، ولا تتيسر بدونها غالبًا، وكل خدمة يقدمها المسلم للمسلمين تعد عبادة وقربةً وطاعةً يؤجر عليها.
ومن هنا رغَّب الرسول - صلى الله عليه وسلم - في التجارة والمشاركة فيها، وجعلهما من أفضل الأعمال، إلا أنَّ التعبد بالتجارة والمشاركة فيها مشروطٌ بالصدق فيهما والبُعد عن الغش والتدليس والاحتكار وإغلاء الأسعار وكل ما يضرُّ بمصالح المسلمين، وإلا كانتا طريقًا للإثم لا للأجر والمثوبة، وقد ورد في ذلك أحاديثُ كثيرة منها:
أ - عن أبي هريرة رَفَعَه قال: ((إن الله يقول: أنا ثالث الشريكين ما لم يخن أحدهما صاحبَه، فإذا خانه خرجتُ من بينهما))؛ رواه أبو داود في كتاب البيوع برقم 2936.
ب - عن نافع عن ابن عمر قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((التاجر الأمين الصدوق المسلم مع الشهداء يوم القيامة))؛ رواه ابن ماجه في كتاب التجارات برقم 2130.
ج - حدثنا شريك عن وائل عن جميع بن عمير عن خاله قال: سئل النبي - صلى الله عليه وسلم - عن أفضل الكسْب فقال: ((بيع مبرور، وعمل الرجل بيده))؛ رواه أحمد في مسند المكيين برقم 15276.
د - عن صالح بن صهيب عن أبيه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((ثلاث فيهن البركة: البيع إلى أجل، والمقارضة، وإخلاط البُر بالشعير للبيت، لا للبيع))؛ رواه ابن ماجه في كتاب التجارات برقم 2280.
هـ - عن سعيد بن حريث قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: ((من باع دارًا أو عقارًا فلم يجعل ثمنه في مثله كان قمنًا أن لا يبارك فيه))؛ رواه ابن ماجه في كتاب الأحكام برقم 2481، وأحمد في مسند الكوفيين، برقم 17990.
من ذلك ننتهي إلى أنَّ التجارة في الإسلام عمل تعبُّديٌّ له غاية لا يجوز أن يحيد عنها، وهي خدمة المسلمين، وتيسير مصالحهم، وأن على التاجر أن يفعل ما يراه الأوفَق والأفضل للمسلمين، ولا يضره ولا ينقص من أجره أن يربح من وراء ذلك، إلا أنه سيخسر الأجر كله أو أكثره إذا ما وجَّه نظره إلى الربح وحده دون الاهتمام بحاجة المسلمين ومصالحهم، هذا ما دام لم يضر بهم، فإذا ألحق عمله ضررًا بهم كان آثمًا، ووجب الضرب على يده ومنعه، مثل الغش والتدليس والاحتكار، فإنها جرائم يعاقب عليها بالتعزير في الدنيا، والعقاب بالنار في الآخرة.
وعليه؛ فإنني ألفِت نظر الإخوة التجار وأصحاب الأموال إلى هذه الملحوظة، وأن يأخذوا بعين الاعتبار في كل تصرُّف من تصرفاتهم مصلحةَ جماعة المسلمين، وأن يقصروا نشاطهم التجاري والاستثماري على بلاد المسلمين دون غيرهم، بصرف النظر عن نسبة العائد الربحي، فإذا اقتضت مصلحةُ المسلمين - لا مصلحتهم الخاصة - الاستثمارَ في الشركات غير الإسلامية فلا بأس به توفيرًا لهذه المصلحة،
أما الاستثمار في الشركات الأجنبية بقصد الربح - فقط - دون نظر إلى مصلحة المسلمين فإنه خروج على أحكام الشريعة الإسلامية، ومجافاة لمبادئها وأهدافها السامية، فإذا كان في هذا الخروج إضرارٌ بمصالح المسلمين كان الأمر حرامًا صِرفًا، وكان جناية كبرى على المجتمع الإسلامي.
وهو ما يحدث - بكل أسفٍ - مِن قِبَل الكثيرين من أغنياء المسلمين الذين يستثمرون أموالهم في بلاد أجنبية أو شركات أجنبية، وتستفيد تلك البلاد وأصحاب تلك الشركات منه في بلاد أجنبية أو شركات أجنبية، ويوجه في كثير من الأحيان إلى صدور المسلمين ومصالحهم أفرادًا وجماعاتٍ، وإنا لله وإنا إليه راجعون.
وإنني أقترح على تجار المسلمين وأصحاب الأموال فيهم أن يتخفَّفوا من الإسهام في الشركات الأجنبية، والاستثمار في البلدان الأجنبية، وأن يحصروا اهتمامهم في تنمية أموالهم في الشركات الإسلامية، وفيما يعودُ نفعُه على جماعة المسلمين ومصالحهم مُتعالِين في ذلك عن العائد الربحي المغري،
وأن لا يشاركوا في الشركات الأجنبية أو في البلاد الأجنبية إلا إذا علموا أنَّ ذلك في مصلحة المسلمين، أو أنَّهم ظنُّوا ظنًّا يدعمه الدَّليل أنَّهم بمشاركاتهم فيها سوف يحوِّلونها إلى شركات إسلامية - في مدَّة محدودة - تدعم مصالح المسلمين، فإذا تعذر عليهم تحويلها إلى شركة إسلاميَّة ذات نظام شرعي كان عليْهم الخروج منها ببيع أسهُمِها.
وقد نصَّت على مثل ذلك الاتجاهِ فتوى بيت التمويل الكويتي ذات الرقم 693، ونصُّها كما يلي:
"السؤال: هل يجوز لنا أن نشتري أسهُمًا لشركة مساهمة، عملها مشروع - كما جاء في نظامها الأساسي - إنما دخلت في عمليات القرض والاقتراض بفوائد، والنية معقودة لدينا على تخليصها من المعاملات غير المشروعة عن طريق تملُّكها من قِبَلنا، أو من قبل من يشتريها منَّا، عن طريق المرابحة، حتَّى تصبح أعمالها مشروعة، وتستمرَّ على ذلك، علمًا بأن هذا هو الأسلوب الذي نستطيع من خلاله تحويل الشركات المساهمة إلى شركاتٍ أعمالها كلها مشروعة، أو تخليصها من الجزء غير المشروع؟
الجواب: "يُحال السؤال إلى جواب السؤال رقم 535 في كتاب الفتاوى مع إضافة أنه يتعيَّن على المشتري أن يقوم بتحْويل ذلك الجزء المشبوه إلى استثمار مشروع خلال مدة ثلاث سنوات، وحتَّى تتحوَّل الأعمال إلى مشروعة، فإن العائد الذي يخص الجزء المتعلق بالفوائد غير المشروعة يصرفه في أوجه الخير والمنافع العامة للمسلمين".
المحور الرابع
لماذا تلجأ الشَّركات إلى إقْراض البنوك والإيداع لديْها؟ وما حكم ذلك شرعًا؟
من المسلَّمات التي يعرفُها ويُمارسها أصحابُ الشَّركات الكبرى، أن يستبْقوا جزءًا من رأْس مالِهم سائلاً بعيدًا عن الاستِثمار، ويستثْمِروا الباقي، وذلك ضمانًا للطَّوارئ والحاجات المستعْجِلة التي تَحتاج إلى سيولة ماليَّة، مثل رواتِب الموظَّفين وما إليْها، وهذا المقدار المستبقَى يَختلف من شركةٍ إلى شركةٍ أُخرى، بحسب نوع عملِها وضخامة حجْمِها، فربَّما كان هذا الجزء 10% من رأْس المال في بعْضِ الشَّركات أو 15% منْه في بعضِها الآخر، أو أكثر من ذلك أو أقلَّ،
ولا يُمكن الاستِغْناء عنه بالكلِّيَّة مطلقًا وإلا تعرَّضت مصالحُ الشَّركة للأخْطار عندما تَحتاج إلى بعض النَّفقة، إلا أنَّ أصحاب الشَّركات يُحاولون دائمًا ضغْط هذا الجزء المستبقَى سائلاً خارجًا عن الاستِثْمار إلى أدنى الحدود، نزوعًا إلى مزيدٍ من العائد الرِّبْحي.
وقد اتَّجهت الشَّركات - نزوعًا نحو استثمار كلِّ رأْسِ مالها مع تلْبية حاجة الشَّركة إلى استِبْقاء جزء من رأس مال سائل - إلى فِكْرة استِثْمار هذا الجزء السَّائل بالبنوك الربويَّة، عن طريق فتْح حساباتٍ جارية فيها، حيث تعود عليْها بفائدةٍ ربحيَّةٍ لهذا الجزْء المودَع من جهة، ومن جهة أُخْرى تستطيع الشَّركة سحْبَه في أي وقتٍ، فتلبي بذلك مصلحتها في سيولتِه.
والمطلوبُ بيان حُكْم هذا الاستِثْمار الرِّبوي لجزْءٍ من رأس مال الشركة، ثم حكم تداوُل أسهم هذه الشَّركات.
ولبيان الحكم أقول:
الرِّبا حرام شرعًا بنصِّ القرآن الكريم، قال تعالى: {وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا} [البقرة: 275]، بل إنَّه من أشد أنواع الحرام؛ لقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ * فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَإِنْ تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُءُوسُ أَمْوَالِكُمْ لَا تَظْلِمُونَ وَلَا تُظْلَمُونَ} [البقرة: 278 - 279]، وقوله سبحانه: {وَمَا آَتَيْتُمْ مِنْ رِبًا لِيَرْبُوَ فِي أَمْوَالِ النَّاسِ فَلَا يَرْبُو عِنْدَ اللَّهِ وَمَا آَتَيْتُمْ مِنْ زَكَاةٍ تُرِيدُونَ وَجْهَ اللَّهِ} [الروم: 29].
والربا حرامٌ مهْما كانت الأسباب الدَّاعية إليه، وقد نصَّ عامَّة الفقهاء على فساد كلِّ عقد بيع أو إجارة أو مشاركة أو غير ذلك إذا دخله الرِّبا، وأوجبُوا فسْخَه والتوبةَ منه.
ومن المسلَّم به لدى عامَّة الفقهاء - إلاَّ مَن شذَّ - أنَّ فتح حسابات جارية بفوائد في بنوك ربويَّة هو من الرِّبا المحرَّم شرعًا، بل إنَّ بعضَهم قال: إذا لم يكُن هذا هو الرِّبا المحرَّم فأين هو الربا المحرَّم؟
وقال الأستاذ مصطفى الزرقا - رحِمه الله - في بَحْثٍ له قدَّمه إلى النَّدوة السَّابعة لمجمع الفقْه الإسلامي بجدَّة، عن فتح الحسابات الجارية في بنوك ربويَّة: "وممَّا لا شكَّ فيه عندئذٍ أنَّ هذا العمل مراباة"[7].
وعليْه؛ فلا يجوز لأيَّة شركةٍ ولا لأيِّ مسلمٍ أن يستثْمِر رأسَ ماله في بنكٍ أو غيرِه بالطَّريق الربوي، ومنه فتْحُ حسابات جارية بفوائد في بنوك ربويَّة.
وهو محلُّ إجْماع الفقهاء خلَفًا وسلَفًا إلا مَن شذَّ كما تقدَّم، ولا عبرة بالشاذِّ لدى الفقهاء كما هو معروف.
ولكن هل يَجوز استِثْناء استِثْمار الجزء السائل فقط من رأس المال، المتروك بعيدًا عن الاستثمار في الشركات وغيرها؛ لتوفير سيولة لها كما تقدم، عن طريق إيداعه في حساب جارٍ في بنك ربوي، ممَّا يؤمِّن بقاءه سائلاً مع ربْح مناسب، بدعْوى الضَّرورة والحاجة التي تُنزَّل منزلتَها، تَحقيقًا لمقولة أطلقَها البعضُ مضمونُها: جواز ذلك بشرْط أن يتصدَّق صاحب المال أو صاحب الشَّركة بعد ذلك بِما دخل عليْه من الربا في أثناء ذلك، وأن يستغفِر الله تعالى منه، ما دام الجزْء المستثمر بالربا من مال الشَّركة قليلاً، بدعوى أنَّ القليل من الحرام حلال!
للإجابة عن ذلك يجب تعريف كلٍّ من الضَّرورة والحاجة، وضوابط إباحة المحرَّم عند توافُرهما أو إحداهما كما يلي:
الضَّرورة: كل مصلحة يترتَّب على فواتِها فواتُ دِينٍ، أو نفسٍ، أو نسلٍ، أو عقْل، أو مال، وهي المسمَّاة بالمقاصد الخمْسة، أو الضروريات الخمس.
أما الحاجَة فهي: كل مصلحةٍ يترتَّب على فواتِها حرَج ومشقَّة في تأْمين إحْدى هذه المقاصد الحسنة الخمْسة، دون فواتِها بالكلِّيَّة، أو هي ما يفتقر إليه من حيث التوْسِعة ورفْع الضيق المؤدِّي في الغالب إلى الحرج والمشقَّة اللاحقة بفوات المطلوب.
وقد اتَّفق الفقهاء على أنَّ الحاجات الضرورية يُباح من أجْل توفيرها المحرَّمات؛ للقاعدة الفقهيَّة "الضَّرورات تُبيح المحظورات"؛ المادة 21 من مجلة الأحكام العدلية، وكذلك الحاجيات، للقاعدة الفقهية "الحاجة تنزل منزلة الضرورة عامَّة أو خاصَّة"؛ المادة 32 من المجلة.
إلاَّ أنَّ لإعمال كلٍّ من الضَّرورة والحاجة في إباحة المحرَّم شروطًا أهمُّها:
أ - أن تكون الضَّرورة أو الحاجة حقيقيَّةً لا متوهَّمةً، وقائمة لا منتظرة.
ب - ألاَّ يمكن تلبِيتها إلا بإباحة المحرَّم، أيْ: أن تتمحَّض إباحة المحرم طريقًا لتلبيتها.
ج - أن لا يكون المحرَّم الذي يترتَّب على تلبيتها أشدَّ ضررًا من فواتِها، للقاعدة الفقهيَّة الكليَّة "الضرر لا يزال بمثله"؛ المادة 25 من المجلة، والقاعدة الفقهية "الضَّرر الأشد يزال بالضَّرر الأخف"؛ المادة 27 من المجلة، وقاعدة "درْء المفاسد أولى من جلب المصالح"؛ المادة 30 من المجلة.
د - ألاَّ يزاد في الضرورة والحاجة عند إباحة المحرَّم لهما على قدرِهما، للقاعدة الفقهية الكلية "الضَّرورات تقدَّر بقدرها"؛ المادة 22 من المجلة.
وتطبيقًا لهذه الشروط على المسألة التي نَحن بصدَدِها، وهي إباحة الربا تلبيةً لمصلحة استثمار الجزء السَّائل من مال الشركة أقول:
الربا حرامٌ شرعًا بنص القرآن الكريم - كما تقدَّم - لقوله تعالى: {وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا} [البقرة: 274]، واستثمار الجزء السَّائل من مال الشَّركة مصلحةٌ من غير شك، إلا أنَّ المحرَّم لا يباح لأيَّة مصلحة كان، ولكن يباح للمصْلحة الضروريَّة والمصلحة الحاجية فقط بالشّروط السابقة، ولو أنْعَمْنا النظر في المصلحة التي نحن بصدَدِها لوجدْناها مصلحة تحسينيَّة، وليست بحاجيَّة ولا ضروريَّة، وتوضيح ذلك فيما يلي:
1 - حِفْظ أصل المال من الضَّياع مصلحة ضروريَّة أو حاجيَّة بدلالة أمور كثيرة، منها:
أ - أنَّ إضاعة المال عبَث من العبَث، وهو تبذير محرَّم؛ لقوله تعالى: {إِنَّ الْمُبَذِّرِينَ كَانُوا إِخْوَانَ الشَّيَاطِينِ وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِرَبِّهِ كَفُورًا} [الإسراء: 27] وقوله تعالى: {وَلَا تُبَذِّرْ تَبْذِيرًا} [الإسراء: 26].
ب - إضاعة المال سفَهٌ، يُحجَر من أجلها على من يضيعه؛ لقوله تعالى: {وَلَا تُؤْتُوا السُّفَهَاءَ أَمْوَالَكُمُ الَّتِي جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ قِيَامًا وَارْزُقُوهُمْ فِيهَا وَاكْسُوهُمْ وَقُولُوا لَهُمْ قَوْلًا مَعْرُوفًا} [النساء: 5].
ج - إذا ضيَّع الوصيُّ مال القاصر أو شيئًا منه بتقْصيرٍ منه ضمِنه واستوْجب العزل به، وكذلك كل أمينٍ على مال غيْره إذا ضيَّعه بتقصيرٍ منه فإنَّه يضمَنه.
د - سرقة مال الغير تُوجب الحدَّ، وهو القطع.
أمَّا استثمار المال فهو مصلحة تحسينيَّة ندَب الشارع إليْها دون إيجاب، بدلالة أنَّ أحدًا من الفقهاء لم يقل بوجوب التِّجارة مشاركة أو غيرها، ولم يقُل أحدٌ بإثْم من ترك التجارة لأي سببٍ كان، إلاَّ أن تكون التِّجارة طريقًا وحيدةً للإنفاق على العيال، فإنَّها في هذه الحال تجِب لغيْرها، وليستْ لذاتِها، وهو أمر خارجٌ عن موضوعنا.
ثمَّ إنَّ الفقهاء لم يقولوا بوجوب الاتجار بِمال القاصر، لا على وليِّه ولا على وصيِّه ولا على القاضي عند غيابِهما، ولكن ندبوا إلى ذلك ندبًا، أخذًا من قول النبي صلَّى الله عليه وسلَّم.
فعن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جدِّه أنَّ النَّبيَّ - صلَّى الله عليه وسلَّم - خطب النَّاس، فقال: ((ألا مَن ولي يتيمًا له مال فليتجر فيه، ولا يتركه حتَّى تأكله الصدقة))؛ رواه الترمذي في كتاب الزكاة برقم 580، ولو كانت التجارة واستِثْمار المال واجبَيْن لذاتِهما في أيٍّ من الأحوال لأوجبَهُما الشارع في هذه الحال، ثمَّ إنَّ في استثمار المال تعريضًا له للضَّياع، فكيف يكون واجبًا مع ذلك.
فإذا كان الاتجار بالمال في الأصْل ليس أكثر من مصلحة تحسينيَّة لما تقدم، فلا يكون الاتجار ببعضه أكثر من ذلك من باب أولى.
وإذا سلمت هذه الأدلَّة من النَّقد - وهو ما أراه راجحًا في نظري - فإنَّ مصلحة استِثْمار المال - أصلاً - هي مصلحة تحسينيَّة، وليست بحاجيَّة ولا ضرورية، وإذا كان الأمر كذلك لم يجز الاتجار به بالربا مطلقًا، لا بجزء من رأس المال، ولا بكله على سواء؛ لأن المصلحة التحسينية لم يقل أحد من الفقهاء بأنَّها من المصالح التي يباح لها المحرَّم مطلقًا، فضلاً عن إباحة الربا الذي هو من أشدِّ المحرَّمات - كما تقدَّم.
2 - التصدُّق بالمال الحرام واجب إذا لم يُعرف صاحب هذا المال الحرام، أما إذا عُرِف فلا يغني شيءٌ عن ردِّه إلى صاحبه،
وصاحب هذا المال الحرام - الفائدة الربوية - معروف هو البنك الربوي الذي أُودع هذا الجزء من رأْس مال الشَّركة فيه، بدليل أنَّ صاحب الوديعة لا يجوز له شرعًا المطالبة به؛ لأنَّه مُقْرِض في الحقيقة الشرعيَّة وليس مودعًا، والبنك هو المقترِض، والمقترض شرعًا - يَملك ما يقترِضه، والفائدة الربويَّة هي نماء هذا المال المقترَض، فتكون لمالكه وهو البنك،
وقد قال في ذلك الأستاذ مصطفى الزرقا: "ونتيجة هذا المعنى في الودائع المصرفيَّة أنَّه إقْراض من هؤلاء المدَّخرين للمصرف، فهم في ذلك مُقْرِضون صغار، وهو مقترِض كبير بكل ما في القرْض من معنى شرعي وقانوني، فيعمل المصرف في هذه الودائع لنفسِه ولحسابه الخاص، وينقطع حقُّ المودِع من عين وديعتِه النقديَّة بمجرَّد تسليمها للمصرف، ويصبح دائنًا للمصرف بمعادلها في ذمَّته، فهي ليست بمعنى الوديعة الفقهيَّة التي توضع عند الوديع للحفظ وهو فيها أمين مؤتَمن غير ضامن لها إلا بالتعدِّي عليْها أو التقْصير في حفظها، فليْست تسمية الودائع المصرفية بهذا الاسم إلا من قبيل الاصطلاح المصرفي والقانوني"[8].
3 - التصدُّق بالمال الحرام يكون توبةً يعْفَى بها صاحبه من مسؤوليَّته عن الحرام إذا كان قد تورَّط فيه عن جهْلٍ أو تغرير، أو ما أشْبه ذلك،
أمَّا أن يُقْدِم عليه طائعًا مختارًا طلبًا لفتات الدنيا، فهذا لا يُعْفِيه من المسؤوليَّة فيه التصدقُ به وحده، بل الصَّدقة والتَّوبة النصوح بشروطِها وهي: الإقْلاع عن الذنْب، والنَّدم، والعزْم على عدم العوْد؛ لقوله تعالى: {إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللَّهِ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوءَ بِجَهَالَةٍ ثُمَّ يَتُوبُونَ مِنْ قَرِيبٍ فَأُولَئِكَ يَتُوبُ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا * وَلَيْسَتِ التَّوْبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ حَتَّى إِذَا حَضَرَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ إِنِّي تُبْتُ الْآَنَ وَلَا الَّذِينَ يَمُوتُونَ وَهُمْ كُفَّارٌ أُولَئِكَ أَعْتَدْنَا لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا} [النساء: 17 - 18].
4 - الربا قليله وكثيرُه في الحرمةِ سواء لدى عامَّة الفقهاء، لقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} [البقرة: 278]، ولعموم قوله تعالى: {ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبَا وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا فَمَنْ جَاءَهُ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّهِ فَانْتَهَى فَلَهُ مَا سَلَفَ وَأَمْرُهُ إِلَى اللَّهِ وَمَنْ عَادَ فَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} [البقرة: 275].
بل إنَّ شبهة الربا حرام كحرمة الربا، قال الحصكفي: "لا يجوز بيع البُرِّ بدقيق أو سويق مطلقًا ولو متساويًا - لعدم المسوَّى فيحرم لشبهة الربا"[9].
وقد أيد هذا الاتجاه مجمع الفقه الإسلامي في جدة، حيث نصَّ في القرار 65 / 1/ 7 في الدورة السابعة على ما يلي:
"لا يجوز شراء السَّهم بقرْضٍ ربوي يقدمه السمْسار أو غيره للمشتري لقاءَ رهْنِ السَّهم؛ لما في ذلك من المراباة وتوثيقها بالرَّهن، وهُما من الأعمال المحرَّمة بالنَّصِّ على لعْن آكِل الربا وموكله وكاتبه وشاهديه"[10].
كما نصَّ في القرار نفسه على ما يلي:
"بما أنَّ الأصل في المعاملات الحل فإنَّ تأسيس شركة مساهمة ذات أغراض وأنشِطة مشروعة أمر جائز.
لا خلاف في حُرْمة الإسهام في شركاتٍ غرضها الأساس محرَّم كالتَّعامل بالربا، أو إنتاج المحرَّمات، أو المتاجرة بها.
الأصل حرمة الإسْهام في شركات تتعامل أحيانًا بالمحرَّمات كالربا ونحوه بالرَّغْم من أن أنشطتها الأساسية مشروعة"[11].
كما وافقه فتوى بيت التَّمويل الكويتي رقم 525 المنشورة في الجزء الرابع من كتاب الفتاوى، ونصها: "إنَّ مبدأ المشاركة في أسهم شركات صناعية تجارية أو زراعية مبدأ مسلم به شرعًا، لأنَّه خاضع للربح والخسارة، وهو من قبيل المضاربة المشتركة التي أيدها الشارع، على شرط أن تكون هذه الشركات بعيدة عن المعاملة الربوية أخذًا وعطاءً، ويفهم من استفتاء سيادتكم أنَّه ملحوظ عن الإسهام أن هذه الشركات تتعامل بالربا أخْذًا وعطاء، وعلى هذا فإنَّ المساهمة فيها تُعَدُّ مساهمة في عمل ربوي، وهو ما نَهى عنْه الشَّارع".
وقد خالف هذا الاتِّجاه بعض جهات الفتوى، ومنها لجنة الأمور العامَّة في وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية في دولة الكويت، حيْث جاء في فتواها رقم 109 / ع / 96 على ما يلي:
"إنَّ الشَّركات التي ليس عملها الأساسي التَّعامل بالربا أو المحرَّمات فلا مانع من التعامل معها أو المساهمة فيها، أمَّا إذا كان عملها الأساسي التَّعامل بالربا أو المحرمات فتحرم المساهمة فيها، أمَّا إذا تعاملت بالربا إقراضًا فعلى المساهم أن يتخلَّص من الربح الذي أصابه من هذا السبيل بإنفاقه في أي عمل من أعمال الخير، على أن لا يقضي به ديْنًا، وألا يبني به مسجدًا، وأن لا ينفقه على أهله، ولا يحتسبه من الزَّكاة، والله تعالى أعلم".
والآن إذا سلم لنا الدليل على أنَّ وضْع الشركة أيَّ جزء من رأس مالِها بالربا حرامٌ، فهل يسلم لنا القول، بأنَّ شراء أسهُم الشَّركات التي تتعامل بالربا أو المحرَّمات الأخرى - ولو ببعض رأس مالِها - هو تعامل محرَّم، ولا يجوز لمسلم الإقْدام عليه، وعلى من تورَّط فيه بجهل مثلاً أن يعمل على نصْح القائمين على الشَّركة لأسلَمَتِها وترْكها التَّعامل بالربا إن كان ممن يظنُّ فيه القدرة على ذلك، فإن لم يستطِعْ ذلك فإنَّ عليه التخلص من هذه الأسهم بالبيع أو غيره فورًا،
وفي كلِّ الأحوال فإن عليه التخلص بالصَّدقة بما يقدر أنه قد دخل عليه من ربح ربا هذه الأسهم؟
هذا هو ما انتهيْتُ إليه بعد الدراسة والتمحيص للقاعدة الفقهية "ما أدَّى إلى الشيء أعطِيَ حكمَه".
إلا أنَّ لفقهاء آخرين وجِهاتِ فتوى أخرى آراءً أخرى، أذكر من أولئك - للأمانة العلميَّة - رأيَيْنِ مشيا في طريق واحدة، الأوَّل منهما لفقيه مؤتَمن، والثاني لهيئة شرعيَّة معتبرة، كما يلي:
الأول: هو الأستاذ الدكتور محمد عبد الغفار الشريف، عميد كليَّة الشريعة والدراسات الإسلامية في جامعة الكويت، حيث جاء في ورقة عمل له قدَّمها إلى المجموعة الدولية للاستثمار ما نصه:
"لا مانع من المشاركة في الشَّركات المساهمة التي يكون غرضها الأساسي مشروعًا، ولكن تودع أموالها في البنوك الربويَّة بالربا، أو تقترض منها به أيضًا، بحيث لا يتجاوز 30% من حجم الأصول، مع الحرْص على تقليل ذلك ما أمكن، على أن تسعى المجموعة للتأثير في قرارات هذه المؤسَّسات لتبعدها مستقبلاً عن التعامل الربوي".
الثاني: هو فتوى الهيئة الشرعية لمؤسَّسة الراجحي في المملكة العربية السعودية في قرارها رقم 182، وملخصه ما يلي:
"فلِما سبق لا ترى الهيئة الشرعيَّة ما يوجب القول بتحريم تداول أسهُم الشَّركات المساهمة التي سبق ذكرها، وهي الشَّركات التي أصل عملها مباح ولكنَّها تستثمر بعضَ رأس مالها بالربا بما لا يُجاوز الثلث، سواء بيعها وشراؤها والتوسط في ذلك، ما عدا الشركات التي يكون موضوع نشاطها الاقتصادي محرمًا، كشركات الخمور وشركات البنوك الربوية ونحوها".
وإنَّني بعد نقلي لهذين الرأْيين الكريمين أوضح ما يلي:
أ - فتوى الأستاذ الدكتور عبد الغفار أباحَت - بإطلاق عبارتها، وتعليلاتها - للشركات التي أصلُ تعامُلها بالمباحات أن تتعامل بالربا ببعض رأْس مالِها بما لا يزيد عن 30% منه، وعندما سألتُه مشافهةً عن دليل تحديده لهذه النسبة قال: حددتها بذلك أخذًا من قول النبي - صلى الله عليه وسلم -: ((في الوصية الثلث والثلث كثير))، حيث دلَّ على أنَّ ما دون الثلث قليل، كما أباح للمسلمين بيع وشراء أسهُم هذه الشركات إلا أنَّه دعا في نهاية فتواه المسلمين إلى أن يحرصوا على تقليل ذلك ما أمكن.
ب - فتوى الهيئة الشرعية لمؤسَّسة الراجحي تساوت مع فتوى الدكتور عبدالغفار في جواز تداول أسهم الشركات التي أصل تعامُلها مباح وتتعامل بالربا ببعض رأس مالها، كما ساوتها في تحديد مقْدار القليل في ذلك بما كان أقلَّ من ثلث رأس مال الشركة، إلا أنَّها - فيما يبدو لي - قد خالفتها في حكم تعامل الشركة نفسها بالربا ببعض رأس مالها قل أو كثر، حيث ذهب الدكتور عبد الغفار بإطلاق عبارته إلى جواز ذلك ما دام لا يجاوز 30%،
ومنعت فتوى الهيئة من ذلك مطلقًا، حيث نصَّت في فتواها على ما يلي: "إنَّ كلَّ ما سلف بيانه خاصٌّ بتداوُل أسهم شركات المساهمة بيعًا وشراءً وأخذ عائدات تلك الأسهم من الأرباح التي توزِّعها الشركات، أما الاشتراك في تأسيس شركات يكون من خطة عملها أن تتعامل في جملة معاملاتها واحتياجاتها التمويليَّة ومدايناتها الائتمانية على أساس الفوائد الربوية، أو كان منصوصًا في نظامها على جواز ذلك فإنَّ الاشتراك في تأسيس هذه الشركات لا ترى الهيئة الشرعيَّة وجهًا لجوازه شرعًا".
ج - لم يتجه لي دليلٌ للتفريق في الحكم الشرعي بين شراء أسهم هذه الشركات عند تأسيسها وشرائها بعد التأسيس - خلافًا لما ذهبت إليه الهيئة الشرعية - وهو في نظري إمَّا مباح في الحالين بشروطه السابقة كما رأى الدكتور عبد الغفار، وإما حرام فيهما كما رجح عندي بحسب ما تقدم.
د - اتَّفقت الآراء على أن مَن تورَّط في شراء أسهُم في هذه الشَّركات أنَّ عليْه أن يخرج من أرباحِه منها في كلِّ عام مقدارَ ما دخله من الربا، وإنَّني أرى شيئًا في ذلك، فما دامت الفتوى قد أباحت هذا الفعل للحاجة، فلماذا يَجب إخراج أرْباح هذا الجزء المباح؟
هـ - اتفقت آراء الدكتور عبد الغفار والهيئة الشرعية على أنَّ حلَّ تداول أسهم هذه الشركات هو استحسان واستثناء ثبت على خلاف الأصل للحاجة، وأنَّه لا يجوز التوسُّع فيه، وأنَّ التنزُّه عنه أولى، وأنه ينتهي بانتِهاء الحاجة إليه، والرَّاجح عندي حرمة ذلك مطلقًا؛ لأنَّ هذا الاستثمار مصلحة تحسينيَّة لا يحل الحرام من أجل توفيرها، بِخلاف المصالح الضرورية أو الحاجية.
المحور الخامس:
هل تدخل هذه المسألة تحت اختلاط المال الحلال بالمال الحرام؟ وإذا كانت داخلةً:
فهل تحدَّث الفقهاء عن حكم استمرار اختلاط المالَيْن؟
إذا اختلط مالُ الإنسان الحلال ببعْض المال الحرام، كمن تورَّط بالتعامل بالربا بجزء من ماله، وكسب منه بعض الفوائد، واختلطت هذه المكاسب بماله الحلال، أو اتَّجر ببعض ماله في أمور محرَّمة كالخمر مثلاً، واختلط ربحُها بماله الحلال، أو غصب مالاً وضمَّه إلى ماله حتى اختلط به وتعذر تمييزه، فما هي الطريق إلى التخلص من هذا المال الحرام؟
نصَّ الفقهاء في مواطن متعدِّدة على أنَّ الإنسان إذا اختلط مالُه الحلال ببعْض المال الحرام فإنْ كان بإمكانه تَمييزه عنه فإنَّ عليه تمييز الحلال من الحرام، ثم إعادة الحرام إلى صاحبه إنْ علم صاحبه وأمكنه ردُّه إليه، ولا يغنيه عن ذلك التصدق به، وإن جهل صاحبه أو عجز عن ردِّه إليه لأي سبب كان فإنَّ طريقه التصدُّق به عن صاحبه، وصرْفه في وجوه الخير والبر عنه، فإذا علم صاحبه بعد ذلك بأي طريقٍ كان وجب عليْه دفْع مثله أو قيمته إليه.
وإذا لم يمكن تَمْييزه عنه بحال، كما إذا غصبَ دراهم أو فلوسًا واختلطتْ بماله الحلال، أو اكتسب فوائد ربويَّة وخلطها بمالِه الحلال، فإنَّ عليه أن يميِّز من هذا المال المختلط نسبةً تُعادل نسبةَ ما دخله من الحرام إنْ علِمَه، وإلا فبحسب غالب ظنِّه، كعُشْره أو نصف عُشره مثلاً، ثم يردُّ هذا الجزء المميَّز إلى صاحبه إن علِمه وقدَرَ على ردِّه إليه، وإلاَّ فإنَّه يصْرِفه في وجوه البِرِّ والخير صدقةً عن صاحبه.
حتَّى إنَّ الورثة إذا علِموا أنَّ مال مورِّثهم فيه حرام، فإنَّ عليهم أن يميِّزوا منه مقدارَ الحرام منه عيْنًا إن عُرِف، أو نسبةً إن لم يعرف، ثم يردوه إلى صاحبه إن علموه، فإن لم يعلموه تصدقوا به عنه، قال الحصكفي في المال الموروث إذا دخله المال الحرام: "وهو حرام مطلقًا عن الورثة فتنبه"، وقال ابن عابدين تعليقًا على ذلك: "أيْ: سواء علِموا أربابه أو لا، فإن علِموا أربابه ردُّوه عليهم وإلا تصدَّقوا به"[12].
ولا يجوز بحال لِمَن اكتسب مالاً حرامًا أن يستمرَّ في امتلاكه أو الانتِفاع به، بل إنَّ عليه التخلُّص منه بما سبق فورًا؛ لأنَّ الاستمرار في المعصية مع إمكان التَّوبة منها معصيةٌ أخرى، بل إنَّ الاستمرار في الصغيرة يَجعلها كبيرةً، ثمَّ إنَّ الإنسان العاصي مأمور بالتَّوبة، خشيةَ الموت على المعصية؛ لأنَّ الموت لا موعِد له يعرفه الإنسان مسبقًا، وتأخير التَّوبة قد يفوِّتها بالموت، فيكون المصير إلى عذاب النَّار والعياذ بالله تعالى.
وفي هذا المضمون صدرتْ فتوى عن لجنة الأمور العامَّة في هيئة الفتوى في وزارة الأوقاف الكويتية برقم 54 / ع / 98، هذا نصُّها:
"فوائد البنوك الربويَّة محرَّمة شرعًا، ولا يجوز الإيداع فيها بفوائد، وإذا وصل للإنسان فوائد ربويَّة - لأي سبب كان - أو أي أموال محرَّمة أخرى، وجب عليه التخلص منها بردها إلى أصحابها إذا عرفوا، وإذا لم يُعرفوا - كما في حالة الفوائد البنكية - فالأولى صرفها في مساعدة المنكوبين في الحوائج ونحوها، وسدّ حاجة الفقراء والمساكين، وهي صدقة عن أصحابها، وإن قصد صاحب الأموال إيداعها في البنوك لتحْصيل هذه الفوائد لتوجيهها إلى أوجه الخير فإن هذا العمل لا يجوز شرْعًا؛ لأنَّ إرادة الخير بالشَّرِّ شرٌّ آخر".
المحور السادس
هل تدخل هذه المسألة تحت صور مسألة عموم البلوى؟
وما هي ضوابط تطبيقاتها؟
عموم البلوى تركيب إضافي من كلمتين: عموم، وبلوى، فأمَّا العموم فمعناه الشيوع والانتشار، وأمَّا البلوى فمعناها الحاجة الماسَّة، والمعنى الإجمالي لهذا المصطلح يعني الحالات أو الحوادث التي تشمل كثيرًا من الناس، ويتعذر أو يتعسَّر الاحتراز منها، أو هي ما تمس الحاجة إليه في عموم الأحوال[13].
وقد اعتمد الشارع عموم البلوى سببًا للترخُّص في أمور كثيرة من العبادات والمعاملات، ونصَّ على ذلك في القرآن الكريم، فقال تعالى: {وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ} [الحج: 78]، وقال سبحانه: {يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ} [البقرة: 185]، ومن الرُّخَص في العبادات - بناءً على عموم البلوى - قصْر الصَّلاة في السَّفر، والفطر في رمضان للمسافر والمريض، والصَّلاة مع قليل النجاسة، ومنها في المعاملات الخيارات المتعددة في البيع كخيار الشرْط والعيب والرؤية.
إلا أنَّ الكثير من الفقهاء على أنَّ حالات عموم البلوى إذا لم يثبت في اعتبارها نص خاص فإنَّها لا تكون سببًا في الترخيص فيما فيه نص، ولكنَّها تعمل فيما ليس فيه نص فقط، وذهب البعض إلى إعمالها فيما فيه نص أو ليس فيه نص، قال ابن نجيم في تقرير قول أبي حنيفة: "ولا اعتبار عنده بالبلوى في موضوع النَّصِّ"،
وقال: "المشقَّة والحرج إنَّما يعتبران في موضع لا نص فيه، وأمَّا مع النَّصِّ بخلافه فلا"، ولذا قال أبو حنيفة ومحمد - رحمهما الله - بحرمة رعي حشيش الحرَم وقطعه إلا الإذخر، وجوَّز أبو يوسف - رحمه الله تعالى - رعْيَه للحرج، وردَّ عليه بما ذكرناه وذكره الزيلعي في جنايات الإجراء، وقال في الأنجاس: إن الإمام يقول بتغليظ نجاسة الأرواث، لقوله - عليه الصلاة والسلام -: ((إنَّها ركس))، أي: نجس، ولا اعتبار عنده بالبلوى في موضع النَّص، كما في بول الآدمي؛ فإن البلوى فيه أعم"[14].
بعد هذه المقدمة لا بدَّ أن نتساءل: هل استثمار بعْض رأس مال الشركة في بنوك ربوية يعد من البلوى العامَّة فيباح من أجلها؟
والجواب: أنَّه حرام على قول مَن يشترط للإباحة بعموم البلوى أن لا تكون في مقابلة نصٍّ؛ لأنَّ الربا محرَّم بنص في القرآن، بل بنصوص كثيرة في القرآن الكريم، منها قوله تعالى: {وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا} [البقرة: 275] وقوله تعالى: {وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا} [البقرة: 278].
أمَّا من لا يشترط ذلك مثل أبي يوسف مِن الحنفيَّة فكذلك حرام عنده أيضًا؛ لأنَّ شرط البلوى العموم والحرج، وليس الأمر هنا كذلك، فأي حرجٍ في تَجميد نسْبة من رأس مال الشَّركة لتكون رأس مالٍ سائلٍ، تُوفَّى منه حاجاتُها المتجدِّدة ما دام الاستِثْمار في أصلِه ليس حاجةً ضروريَّة ولا حاجيَّة، لا لكل المال ولا لجُزْئه كما قدَّمنا؟ وإن سلَّمْنا جدلاً بضرورة الاستِثْمار أصلاً فليس لنا أن نسلِّم بضرورة استِثْمار الجزْء قطعًا، ولا حاجيته، نَعَم فيه تفويتُ مصلحة، لكنَّها مصلحة تحسينيَّة، وشرط البلوى التي يباح من أجلها المحرم أن تكون مصلحة ضرورية أو حاجية،
وليست هذه منها؛ للقاعدة الفقهية: "إذا تعارضتْ مفسدتان قدِّم أعظمُهما ضررًا بارتكاب أخفِّهما"؛ المادة 28 من مجلة الأحكام العدلية، والقاعدة الفقهية الكليَّة "الضرر الأشد يزال بالضرر الأخف"؛ المادة 27 من المجلة، والقاعدة "الضرر لا يزال بمثله"؛ المادة 25 من المجلة.
المحور السابع
كيف يُمكن تجنيب أرباحِ الشَّركة الأموالَ المشبوهة إذا كانت الشَّركة تمتلك أسهمَ شركات أخرى من النوع ذاته - غرضها مباح وتقترض وتقرض بالفائدة - وهذه الشركات تمتلك أسهم شركات أخرى وهكذا دوالَيْك؟
سبق أن قرَّرنا أنَّ الربا حرامٌ شرعًا، وأنَّه لا يجوز لمسلم متفرِّد ولا ضمن شركة أن يأكل الربا أو يُطعِمه لفرد أو شركة أو دولة في غير حالات الضَّرورة أو الحاجة، يؤيِّد ذلك الفتوى الصادرة عن مفتي مصر الشيخ جاد الحق علي جاد الحق برقم 1255 بتاريخ 4 ربيع الأول 1400هـ، ونصُّها:
"قال الله تعالى: {الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبَا لَا يَقُومُونَ إِلَّا كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ الْمَسِّ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبَا وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا فَمَنْ جَاءَهُ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّهِ فَانْتَهَى فَلَهُ مَا سَلَفَ وَأَمْرُهُ إِلَى اللَّهِ وَمَنْ عَادَ فَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ * يَمْحَقُ اللَّهُ الرِّبَا وَيُرْبِي الصَّدَقَاتِ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ كُلَّ كَفَّارٍ أَثِيمٍ} [البقرة: 275 - 276]،
وقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((الذهب بالذهب يدًا بيد والفضل ربا))،
ومن هذه النصوص الشرعيَّة وغيرها يكون الربا محرمًا، سواء أكان ربا نسيئة أم ربا زيادة، ولما كان إيداع المال بالبنوك نظير فائدة محدَّدة مقدَّمًا قد وصفَه القانون بأنَّه قرض بفائدة فإن هذه الفائدة تكون من قبيل ربا الزيادة المحرم شرعًا، وبالتالي تصبح مالاً خبيثًا لا يحل للمسلم الانتفاع به، وعليه التخلص منه بالصَّدقة،
أمَّا القول بأن هذا التعامل ليس بين الأفراد ولكن مع المصارف التي تتبع الحكومة، فإنَّ الوصف القانوني لهذه المعاملات قرض بفائدة لا يختلف في جميع الأحوال، ولم يرد في النصوص الشرعيَّة تفرقة بين الربا بين الأفراد وبين الربا بينهم وبين الدولة، وعلى المسلم أن يكون كسبُه حلالاً يَرضَى عنه اللهُ تعالى، والابتعاد عن الشبهات والله سبحانه وتعالى أعلم"[15].
كما قرَّرنا أنَّ على كلِّ مَن دخل ماله ربا أو مال حرام من أيِّ وجه كان أن يتخلص منه في أقرب وقت ممكن، بالرد إلى صاحبه إن عرفه وتمكَّن من ردِّه إليه، أو بإنفاقه في طرق البر والخير صدقة عن صاحبه، ولم يجز بحال أن يأكل مسلم الربا، أو يكسب الربا بقصد إنفاقه على الفقراء وفي طريق البر قولاً واحدًا، وإلا كان حاله كما قالت فتوى اللجنة العامة في وزارة الأوقاف الكويتية: "إرادة الخير بالشر شر آخر" أو كما قال الشاعر:كَمُطْعِمَةِ الأَيْتَامِ مِنْ كَسْبِ فَرْجِهَا لَكِ الوَيْلُ لا تَزْنِي وَلا تَتَصَدَّقِي
ومن هنا نرى أنَّ على الشَّركات أن تَمتنِع عن استثمار أموالِها أو جزء منها بالربا مُطْلقًا، لا بوضعها في بنوك ربوية عن طريق حسابات جارية، ولا بشرائِها أسهم شركات تتعامل بالربا، ولا شركات تستثمر بعض أموالها بالرِّبا؛ إذْ لا ضرورة ولا حاجة معتبرةً في ذلك في كل الأحوال كما سبق بيانه.
ولكنَّ السؤال الذي يطرح نفسه ما لو تورطت شركةٌ ما في غفلةٍ من الزَّمن بشراء أسهم في شركة تتعامل بالربا،
وهذه الشَّركة تمتلك أسهُمَ شركة أخرى ربوية، ثم تاب أصحاب الشركة الأولى وأحبوا أن ينزِّهوا أموالهم عن الحرام، ويطهروها منه،
فماذا يجب عليهم أن يفعلوا؟
والجواب: أنَّ عليْهِم أن يردُّوا هذه الأسهم لمن اشترَوها منهم إن أمكن، وإلاَّ فإنَّ عليْهم أن يبيعوها إلى أي مشترٍ آخر، فإن باعُوها برأس مالِها أو أقلَّ منه فلا إشكال، لقوله تعالى: {وَإِنْ تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُءُوسُ أَمْوَالِكُمْ لَا تَظْلِمُونَ وَلَا تُظْلَمُونَ} [البقرة: 279]،
وإن كان الثمن أكثر من رأس المال تخلصوا ممَّا زاد على رأْسِ مالِهم؛ لأنَّ الزَّائد نماءُ مالٍ حرام، فهو حرام، هذا إذا كانت الشركة التي اشتروا أسهُمَها شركة ربويَّة،
فإن كانت شركةً غير ربويَّة إلا أنَّ الربا يدخل في أعمالها تبعًا أحيانًا، فإنَّه يكفيهم بعد بيع أسهُمِها أن يتخلَّصوا مما زاد على رأس المال، بمقدار ما يظنُّون أنَّه يقابل ما دخل من ربا إلى الشركة التي اشتروا أسهمها من الشركة الأخرى التي اشترت بعض أسهم في شركة ربوية، أو شركة يدخل الربا في بعض أموالها، بحسب ظنهم حلالاً إلا بذلك، وهو عملٌ صعب ومحفوف بالمخاطر، ولكنَّه الطريق الوحيدة لمن تورَّط في الحرام أو في شبهة الحرام.
ومن هنا نستشْعِر أهمية وجوب التحرُّز عن مثل هذه الأعمال من الأصل لِمن أراد أن ينزِّه نفسه عن الحرام وشبهته، والأفضل إنفاقُ الزائد كلِّه احتياطًا، لما فيه من شبهة الربا؛ لأنَّ شبهة الربا حرامٌ مثل الربا المحقَّق لدى الفقهاء ذلك أنَّهم حرَّموا بيع الصبرة بالصبرة من غير كَيْل لما فيه من شبهة الربا، وهذا مثله.
ولا بدَّ أن أذكِّر في هذا المقام بمبدأ شرعي مسلَّم به لدى كل مسلم، ولكنه مما ينسى في زحمة الأعمال، وهو مبدأ أنَّ الرزق محتوم من الأزل، ومقدَّر من الله تعالى تقديرًا لا يقبل التغيير؛
فقد روى البخاري عن عبدالله بن مسعود - رضي الله عنه - قال: حدثنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهو الصَّادق المصدوق -: ((إنَّ خلْق أحدكم يُجمع في بطْن أمه أربعين يومًا، أو أربعين ليلةً، ثم يكون علقةً مثله، ثم يكون مضغةً مثله، ثم يُبْعَث إليه الملك فيؤذَن بأربع كلمَات، فيكتب رزقه، وأجله، وعمله، وشقيٌّ أم سعيد، ثم ينفخ فيه الروح، فإن أحدكم ليعمَل بعمل أهل الجنة حتى لا يكونُ بيْنها وبينه إلا ذراعٌ فيسبق عليه الكتاب، فيعمل بعمل أهل النار فيدخل النار، وإنَّ أحدكم ليعْمل بعمل أهل النَّار حتى ما يكون بينها وبينه إلا ذراعٌ فيسبق عليه الكتاب فيعمل عمل أهل الجنَّة فيدخلها))؛ رواه البخاري في كتاب التوحيد رقم (6900).
فما دام الأمر كذلك، وهو يقين وليس ظنًّا، فلماذا التورُّط في الحرام في زحمة الاستثمار؟ ولماذا لا يوصي بعضنا بعضًا بالوقوف عند الحلال الصِّرف الصافي، الذي لا تشوبه شائبة ما دامت هذه الأعمال المشبوهة لا يمكن أن تزيد في ربحنا في يقينِنا وإيماننا؟ وهو ما نطق به الصادق الأمين عندما قال: ((دَعْ ما يَرِيبك إلى ما لا يَريبك؛ فإنَّ الصِّدْق طُمأنينة وإنَّ الكذِب ريبة))؛ رواه الترمذي في كتاب صفة القيامة برقم (2442)،
وحدَّثنا النعمان بن بشير عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: سمعتُ رسولَ الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - يقول - وأهوى النعمان بإصبعَيْه إلى أُذُنيْه -: ((إنَّ الحلال بيِّن والحرام بيِّن، وبينهما أمور مشتَبِهات لا يعلمهنَّ كثيرٌ من النَّاس، فمنِ اتَّقى الشبهات استبرأ لدينِه وعرضه، ومن وقع في الشُّبهات وقع في الحرام، كالرَّاعي يرعى حول الحمى يوشك أن يرتع فيه، ألا وإنَّ لكل ملك حمًى، ألا وإنَّ حمى الله محارمُه، ألا وإنَّ في الجسد مضغةً إذا صلحتْ صلح الجسد كلُّه، وإذا فسدت فسد الجسدُ كلُّه، ألا وهي القلب))؛ رواه مسلم في كتاب المساقاة برقم (2996).
المحور الثامن والتاسع
معلوم أنَّ الشَّركة عندما يرسو عليها مشروع ضخم فإن أسهُمَها ترتفع ارتفاعًا كبيرًا، وتكون قد اقترضت بفائدة للمشْروع،
فما هو الموقف في الحكم على هذه المسألة، وإذا اقترضت الشركة فقد دخل القرْض إلى رأس مالِها، فلماذا تحرم من ريعه؟
على كل تاجر أو صاحب مال - فردًا كان أو شركةً - أن لا يفكِّر في توسيع دائرة عمله التِّجاري إلا بعد أن يكون لديه من المال ما يفي بهذا العمل؛ فلا يتعرَّض لتعهُّدات أو صفقات لا يَجد لديْه مالاً يكفي للقيام بها، ولا ينبغي له الاقتِراض للقيام بها؛ لأن الاقتراض شُرِّع أصلاً للحاجات الضرورية والحاجية، وليس الاستثمار منها، وهذا لا يعني بحال أن الاقتراض في سبيل الاستثمار حرامٌ بل هو مباح، ولكنَّه غير مستحسن، هذا إذا كان القرض قرضًا حسنًا بغير فوائد،
أمَّا إذا كان الاقتراض بفوائد ربويَّة فهو حرام، ولا يبرره الحاجة إليْه للاستِثْمار؛ لأنَّها حاجة تحسينيَّة، لا يحل الربا من أجل تلبيَتها - كما تقدم - وكما لا يجوز الاقتراض بالربا من أجل الاستثمار لا يجوز التوسُّع في الاستثمار على أمل الاستعانة فيه بالقرض الربوي من باب أولى؛ لأنَّ "ما أدَّى إلى الشيء أُعطِيَ حكمه".
إلا أن السؤال الذي يفرض نفسَه هنا ما لو تورَّط تاجر أو شركة والتزما بتعهُّد أو صفقة ما، ثم احتاجا لإتْمام عملهما إلى قرض ربوي يتوقَّف عملُهما بدونه، أو يتعطَّل أو تلحق بهما خسارةٌ فادحةٌ، فهل يحل لهما الاقتراض بالربا في هذه الحال؟
الجواب: على ذلك يحتاج إلى تكْييف شرعي وبيان لمرتبة هذه المصلحة - مصلحة الاستِمْرار في العمل ودرْء الخسارة - أمَصْلَحَةٌ ضروريَّة هي؟ أم حاجيَّة أم تحسينيَّة؟ فإن قرَّرنا أنها ضرورية أو حاجيَّة أجزْنا الاقتِراض بالرِّبا من أجْل تحقيقِها، إذا لم يمكن تحقيقُها بأيِّ طريق مشروعة أخرى، أمَّا إذا أمكن تَحقيقها بأي طريق مشروعة أخرى ولو بدرجة أقلَّ، أو قرَّرنا أنها مصلحة تحسينيَّة، فلا يجوز الاقتراض بالربا من أجل تحقيقها قولاً واحدًا.
والذي أراه هنا أن التوسُّع في المشروع إذا كان مبنيًّا على الاقتِراض بالربا في الأصل فلا يَجوز، ولا يَجوز الاقتِراض بالرِّبا من أجلِه؛ وذلك سدًّا لذريعة الاحتيال على الاقتِراض بالربا، ولقاعدة: "ما أدَّى إلى الشيء أعطِيَ حكمَه".
أمَّا إذا كان التوسُّع في المشْروع في الأصل ليس مبنيًّا على الاقتِراض بالربا، كمَن كان له أموالٌ يرجو قيامها بِمشروعه وتوسُّعاته، ثم جدَّت الحاجة إلى الاقتِراض بالرِّبا بعد البدْء به والسَّير فيه لسببٍ طارئ، كأن هلكَت تلك الأموال مثلاً،
فإنْ أمكن تأمين المصْلحة وسير العمل بغير الاقتِراض بالرِّبا - ولو بدرجةٍ أقلَّ - حرم الاقتِراض بالربا لعدم تمحُّضه لتأْمين هذه المصلحة، وإن لم يوجد أيُّ حلٍّ سوى الاقتِراض بالربا أو الخسارة أو الإفلاس، وكان الاقتراض بالربا حَلاًّ أكيدًا للمشكلة، فإن كانت الخسارة من ترْك الاقتراض بالربا قليلةً لم يبح الاقتراض بالربا لدفعها، وإن كانت كبيرة فأرجو أن يكون هناك فُسحة في الاقتراض بالربا بالقدْر الضيِّق الذي يوفِّر أصل المصلحة ويمنع الخسارة الفاحشة، لا توفير الربح؛
لأنَّ دفع الخسارة في هذه الحال مهما كانت هو الأولى والأحوَط، فإذا تمَّ الاقتِراض بالربا لدفْع الخسارة المحقَّقة بدونه بالشروط السابقة ونتج عن ذلك ربحٌ من غير قصدٍ إليه، فإنَّ هذا الربح يعد مِلكًا حلالاً لأصحابه؛ لأنَّهم دفعوا الربا ولم يأكلوه، وكان دفعهم له مبرَّرًا بحسب ما تقدَّم، وإن كان هذا لا يعفي الجهة التي أقْرضَتْهم بالربا من الإثْم، كمن اضطرَّ إلى الاقتِراض بالرِّبا لدفْع الموت عن نفسه ولم يكن له طريقٌ أخرى لدفع الهلاك عنها غيره، فإنَّه غير آثم في هذا الاقتراض، بخلاف المقْرِض فإنَّه آثم،
وهذا مثله، فإذا اقترضوا بالرِّبا وتركوا حلولاً أخرى حلالاً ممكنةً، أو اقترضوا بالربا مبلغًا أكبر من الحاجة، أو اقترضوه بقصْد الوصول إلى الربح وليس لدفع الخسارة الفاحشة والإفلاس، فقد أثِموا، وعليْهم التَّوقُّف عنه فورًا، والتَّوبة النصوح كما تقدَّم، والتصدُّق بما دخل عليْهم من ربح منه، والله تعالى أعلم، والحمد لله رب العالمين.
الهوامش
[1] انظر في هذا: "المصباح المنير" و"مختار الصحاح" و"المعجم الوسيط"، مادة (س هـ م)، وانظر: بحث "أحكام السوق المالية"، ص 7 - 10، و"الفقه الإسلامي وأدلته"، ص9 - 164، و"الشركات"، 2/ 94 - 10، و"شركة المساهمة"، ص232 - 352، و"عمل شركات الاستثمار"، ص98 - 99.
[2] ابن عابدين، 3/ 333.
[3] "مغني المحتاج"، 2/ 16، ومثله في قليوبي وعميرة 2/ 161.
[4] "كشاف القناع"، 3/ 168، و"انظر أحكام السوق المالية"، ص13 - 19.
[5] "الموسوعة الفقهية" بحث شيوع ف7 - 13.
[6] انظر: المجلد السابع من مجلة "المجمع الفقهي"، ص712 - 713.
[7] مجلة "مجمع الفقه الإسلامي"، 7/ 93.
[8] بحث عن المصارف منشور في مجلة "المجمع الفقهي"، ع7.
[9] "ابن عابدين على الدر المختار"، 4/ 187.
[10] المجلد السابع من مجلة "المجمع الفقهي"، ص713.
[11] العدد السابع من مجلة "المجمع الفقهي"، في جدة، 1/ 711 - 712.
[12] ابن عابدين، 5/ 247.
[13] "الاختيار لتعليل المختار"، 1/ 34، و"كشف الأسرار"، 3/ 16، و"الموسوعة الفقهية"، 31 - 6 - 7.
[14] "الأشباه والنظائر"، لابن نجيم، ص84.
[15] انظر: "الفتاوى المصرية"، 9/ 3341.
ثبت المراجع
الحديث الشريف:
"صحيح البخاري"، الإمام البخاري، سي دي العالمية - صخر.
"صحيح مسلم"، الإمام مسلم، سي دي العالمية - صخر.
"سنن أبي داود"، أبو داود، سي دي العالمية - صخر.
"سنن الترمذي"، الترمذي، سي دي العالمية - صخر.
"سنن النسائي"، النسائي، سي دي العالمية - صخر.
"سنن ابن ماجه"، ابن ماجه، سي دي العالمية - صخر.
"مسند أحمد"، الإمام أحمد، سي دي العالمية - صخر.
معاجم اللغة:
"المصباح المنير"، الفيومي، مكتبة لبنان.
"مختار الصحاح"، الرازي، مصطفى البابي الحلبي.
"المعجم الوسيط"، معجم اللغة العربية، ط3.
أصول الفقه:
"كشف الأسرار"، البزدوي، دار الكتاب العربي.
"الموافقات"، الشاطبي، دار المعرفة بلبنان.
الفقه الحنفي:
"رد المحتار على الدر المختار"، ابن عابدين، دار إحياء التراث.
"الاختيار لتعليل المختار"، الموصلي، دار المعرفة.
"الأشباه والنظائر"، ابن نجيم، دار الكتب العلمية.
مجلة "لأحكام العدلية"، جماعة من العلماء، ط5.
"درر الأحكام"، لعلي حيدر، دار الكتب العلمية.
الفقه الشافعي:
"مغني المحتاج شرح المنهاج"، الشربيني الخطيب، دار الفكر.
"حاشية قليوبي وعميرة"، قليوبي وعميرة، عيسى البابي الحلبي.
الفقه الحنبلي:
"كشف القناع"، البهوتي، عالم الكتب.
الفقه والفتاوى الحديثة:
"الموسوعة الفقهية"، وزارة الأوقاف الكويتية.
"الفقه الإسلامي وأدلته"، د. وهبة الزحيلي، دار الفكر.
"شركة المساهمة السعودية"، د. صالح المرزوقي، السعودية.
"عمل شركات الاستثمار"، أحمد محيي الدين حسن، البحرين.
"فتاوى بيت التمويل الكويتي"، الهيئة الشرعية لبيت التمويل الكويتي.
"مجموعة الفتاوى الشرعية"، الهيئة الشرعية في وزارة الأوقاف الكويتية.
فتاوى الهيئة الشرعية لمؤسسة الراجحي في المملكة العربية السعودية.
فتوى للدكتور محمد عبد الغفار الشريف مقدمة للمجموعة الدولية للاستثمار.