الأخ الفاضل الأستاذ ....... حفظه الله تعالى
السلام عليكم ورحمة الله تعالى وبركاته، وبعد:
فبناء على رغبتكم الكريمة أوافيكم بجواب الأسئلة التالية:
س1: ما هو الأثر النفسي والروحي لفريضة الحج؟
جــواب:
الحج فرض من فروض الإسلام وشعيرة من شعائره، فرضه الله تعالى على المستطيعين له من المسلمين في العمر مرة واحدة، بقوله جل من قائل: (وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ) (آل عمران: من الآية97)، وفي ذلك استجابة لدعاء سيدنا إبراهيم خليل الرحمن عليه السلام، مصداقا لقوله سبحانه: (وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالاً وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ) (الحج:27)، وهو ركن أصيل من أركان الإسلام، لقوله صلى الله عليه وسلم: (بُنِيَ الإِسْلامُ عَلَى خَمْسٍ شَهَادَةِ أَنْ لا إِلَهَ إِلا اللَّهُ وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ وَإِقَامِ الصَّلاةِ وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ وَالْحَجِّ وَصَوْمِ رَمَضَانَ) رواه الشيخان.
وللحج مكانة خاصة في جمع كلمة المسلمين، وتوحيد صفوفهم، وتقوية الوحدة بينهم، فهو لقاء سنوي بين مندوبين من كافة أنحاء العالم الإسلامي، في أكرم بقعة من بقاع الأرض، وحول أول بيت وضع للناس، قال سبحانه: (إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكاً وَهُدىً لِلْعَالَمِينَ) (آل عمران:96)، لا يجمعهم مصلحة دنيوية، ولا منافع مادية، ولكن حب الله تعالى ورسوله، فهو واد غير ذي زرع، لا يقصد لغير العبادة، قال سبحانه: (بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِنْدَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ رَبَّنَا لِيُقِيمُوا الصَّلاةَ ) (إبراهيم: من الآية37)، فتطمئن قلوبهم، وتتعارف وجوههم، وتتآلف نفوسهم، ويتدارسون مشكلاتهم، ويرسمون الحلول لما يلاقيهم من أعدائهم وخصومهم، فيكونون بذلك كما أرادهم ربهم، أمة واحدة، وقلبا واحدا، وجسدا واحدا، متحابين في الله تعالى وحده، ومتعاونين فيه على حبه وتقواه وعبادته، تحقيقا لقوله سبحانه: (إِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ) (الأنبياء:92)، وقوله جل من قائل: (وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالأِنْسَ إِلا لِيَعْبُدُونِ، مَا أُرِيدُ مِنْهُمْ مِنْ رِزْقٍ وَمَا أُرِيدُ أَنْ يُطْعِمُونِ، إنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ) (الذاريات:56-58).
فإذا قام المسلم بالحج، واستوفى فيه أركانه وشروطه وواجباته وسننه وآدابه كما هو مطلوب منه، وكان حجه بمال حلال لا شبهة فيه، ولم يكن في ذمته لأحد حق ولا مطلب من بني البشر، ولم يخاصم في حجه أحدا، وأحرم لله تعالى متقشفا ومبتعدا عن الدنيا وملذاتها ومتعها، ومنقطعا لربه، ومتبتلا إليه، عاد من ذنوبه كيوم ولدته أمه، قال صلى الله عليه وسلم: (مَنْ حَجَّ فَلَمْ يَرْفُثْ وَلَمْ يَفْسُقْ رَجَعَ كَهَيْئَتِهِ يَوْمَ وَلَدَتْهُ أُمُّهُ) رواه مسلم والترمذي وأحمد بألفاظ متقاربة.
وفي الحج دروس في التقشف والمساواة بين الناس جميعا، كبيرهم وصغيرهم، وغنيهم وفقيرهم، ورئيسهم ومرؤوسهم، فالكل بلباس واحد لا زينة فيه، هو لباس الإحرام، لا تحية لهم عند اللقاء مع بعضهم إلا (لبيك اللهم لبيك)، ومن السنة أن يرفع الحاج بها صوته، قال صلى الله عليه وسلم: (جَاءَنِي جِبْرِيلُ فَقَالَ لِي يَا مُحَمَّدُ مُرْ أَصْحَابَكَ أَنْ يَرْفَعُوا أَصْوَاتَهُمْ بِالتَّلْبِيَةِ) رواه الترمذي وغيره، وعبادتهم الصلاة لله تعالى والطواف حول بيته العتيق، فالصلاة في بيت الله تعالى الحرام تعدل مئة ألف صلاة فيما سواه، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (صَلاةٌ فِي مَسْجِدِي أَفْضَلُ مِنْ أَلْفِ صَلاةٍ فِيمَا سِوَاهُ إِلا الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ، وَصَلاةٌ فِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ أَفْضَلُ مِنْ مِائَةِ أَلْفِ صَلاةٍ فِيمَا سِوَاهُ) رواه ابن ماجه وغيره، والطواف حول الكعبة المشرفة أفضل عند الله تعالى من الصلاة، ولهذا فإنك تجد الحجاج والعمار لا شغل لهم إلا الصلاة في البيت الحرام، والطواف حول البيت العتيق، لا يأبهون لطعام إلا الضروري، ولا لمتعة من متع الدنيا إلا ما لا يمكن الاستغناء عنه، فتصفو نفوسهم، ويرتاح قلبهم، ويزيد إيمانهم بربهم، فيعلو مقامهم عنده سبحانه: ويعودون إل أهلهم بنفس مطمئنة صافيه لا تستشعر في دنياها غير مرضاة الله تعالى وعبادته، وهذه هي المنافع الحقة التي أشار إليها ربنا جل وعلا في قوله سبحانه: (لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَعْلُومَاتٍ عَلَى مَا رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الأنْعَامِ فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْبَائِسَ الْفَقِيرَ) (الحج:28) .
س2: ما هي الفلسفة الإلهية في فريضة الحج؟
جـــواب:
لله تعالى في كل حكم من أحكامه فلسفة خاصة، وحِكَم معينة، فيها ترويض النفس وتطويعها لخالقها، وتمكينها من التحكم بشهواتها وميولها وإمكاناتها لتصرفها فيما خلقها الله تعالى له، فلم يُخلق الإنسان عبثا، ولكن خُلق لمهمة عالية، ومصالح رفيعة، هي إعمار الأرض وبناؤها والسير فيها بطاعة الله تعالى، وإقامة الحضارات عليها، ولا يكون ذلك إلا برياضات خاصة تضبطها وتجعلها تمشي في طريقها الطبيعي الذي حلقت له، وهي العبادات التي أشار الله تعالى إليها في قوله سبحانه: (وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنْسَ إِلا لِيَعْبُدُونِ) (الذاريات:56)، حيث إن العبادة الحقة ليست إلا إعمار الأرض لمصلحة البشرية جمعاء، فالله تعالى غني عن الصلاة وعن الصوم وعن الزكاة وعن الحج، وما شرع ذلك إلا لتكون رياضات يتمكن الإنسان من خلالها من تطويع نفسه لما خلقت له من الإعمار والبناء في الأرض: قال r: (الخلق كلهم عيال الله وأحبهم إلى الله أنفعهم لعياله) رواه أبو يعلى وغيره)، وقال تعالى: (وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ) (آل عمران: من الآية97) ، وقال سبحانه: (مَا يَفْعَلُ اللَّهُ بِعَذَابِكُمْ إِنْ شَكَرْتُمْ وَآمَنْتُمْ وَكَانَ اللَّهُ شَاكِراً عَلِيماً) (النساء:147).
س3: ما فضل العشر الأوائل من ذي الحجة؟
جـــواب:
لقد ميز الله تعالى في الأرض أمكنة معينة بميزات خاصة، وزينها بعبادات خاصة بها، كما ميز أزمنة معينة، وخصها بعبادات خاصة بها أيضا:
- فمن الأمكنة المميزة بيت الله تعالى الحرام، أول بيت وضع للناس في الأرض، وميزه الله تعالى بالطواف حوله، وجعل الطواف حوله أحب العبادات إليه، وأكثرها أجرا، كما ميز الحرم الشريف في مكة المكرمة، وجعل الصلاة فيه بمئة ألف صلاة فيما سواه، وميز مكة المكرمة -بلد الله تعالى الحرام- وجعل الحسنات فيها مضاعفة عنها في غيرها من بلاد الله تعالى، وميز عرفات، وجعل الوقوف فيها للحاج أهم ركن في الحج الذي هو من أهم أركان الإسلام، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (مَا مِنْ يَوْمٍ أَكْثَرَ مِنْ أَنْ يُعْتِقَ اللَّهُ فِيهِ عَبْدًا مِنْ النَّارِ مِنْ يَوْمِ عَرَفَةَ وَإِنَّهُ لَيَدْنُو ثُمَّ يُبَاهِي بِهِمْ الْمَلائِكَةَ فَيَقُولُ مَا أَرَادَ هَؤُلاءِ) رواه مسلم.
- ومن الأزمنة المميزة عند الله تعالى يوما الإثنين والخميس، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يخصهما بالصوم، ولما سئل عن ذلك قال: (تُعْرَضُ الأَعْمَالُ يَوْمَ الإثْنَيْنِ وَالْخَمِيسِ فَأُحِبُّ أَنْ يُعْرَضَ عَمَلِي وَأَنَا صَائِمٌ) رواه الترمذي وغيره، ومنه الأيام البيض الثلاثة من كل شهر قمري، وهي الثالث عشر والرابع عشر والخامس عشر، فقد ميزها الله سبحانه بسنية صيامها للمسلم، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يحافظ عليها، ومنها يوم الجمعة، وفيه صلاة الجمعة وخطبتها، ومنها يوم عاشوراء، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يحرص على صومه مع يوم قبله أو يوم بعده، ومنه العشر الأوائل من ذي الحجة، التي أقسم الله تعالى بها في قوله سبحانه: (وَالْفَجْرِ، وَلَيَالٍ عَشْرٍ) (الفجر:1-2)، وقد ندبنا رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى صيام التسعة الأولى منها، وبخاصة التاسع (يوم عرفة)، وأن نحتفل في اليوم العاشر منها (يوم عيد الأضحى) بالأضحية، وصلاة العيد، وصلة الأرحام.
وفي هذه المناسبة الكريمة أتوجه إلى المسلمين جميعا في أنحاء الأرض، بالتهاني والتبريكات بحلول هذه الأيام الطيبة، وقرب حلول عيد الأضحى المبارك، داعيا الله تعالى أن يتقبل منا جميعا العبادة، وأن يجمعنا على حبه وتقواه.
الثلاثاء 2 ذو الحجة 1428هـ و 11/12/2007م
أ.د.أحمد الحجي الكردي
خبير في الموسوعة الفقهية
وعضو هيئة الفتوى في دولة الكويت