حكم إخراج المنفعة بدلاً عن زكاة المال
بحث مقدم للمؤتمر الثامن عشر للزكاة
الذي يقيمه بيت الزكاة في دولة الكويت
أعده
الأستاذ الدكتور
أحمد الحجي الكردي
تمهيد:
من المسلمات أن الزكاة ركن من أركان الإسلام الخمسة التي بينها النبي صلى الله عليه وسلم في قوله: (بُنِيَ الإِسْلامُ عَلَى خَمْسٍ شَهَادَةِ أَنْ لا إِلَهَ إِلا اللَّهُ وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ وَإِقَامِ الصَّلاةِ وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ وَالْحَجِّ وَصَوْمِ رَمَضَانَ) رواه البخاري ومسلم.
ومن المسلمات أيضا أن الزكاة لا تجب إلا على أغنياء المسلمين، تدفع إلى فقرائهم، لقوله تعالى: (وَالَّذِينَ فِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ مَعْلُومٌ، لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ) (المعارج:24-25)، ولحديث النبي صلى الله عليه وسلم: (فَأَعْلِمْهُمْ أَنَّ اللَّهَ افْتَرَضَ عَلَيْهِمْ صَدَقَةً فِي أَمْوَالِهِمْ تُؤْخَذُ مِنْ أَغْنِيَائِهِمْ وَتُرَدُّ عَلَى فُقَرَائِهِمْ) رواه البخاري ومسلم.
ومن المتفق عليه بين الفقهاء أن الزكاة لا تجب إلا في الأموال النامية حقيقة أو حكما، وهذه الأموال هي:
1)) الذهب والفضة كيفما كانا، سبائك أو نقودا أو تبرا أو غير ذلك، ويلحق بها النقود والعملات بأنواعها، لأنها حلت محلها، وهذه الأموال تعد نامية حكما، سواء أعدت للتجارة فعلا أو لا.
2)) عروض التجارة، وهي كل مال أعد للبيع والاسترباح من الأموال، بشروط معينة وأوصاف معينة، اتفق الفقهاء في بعضها واختلفوا في بعضها الآخر.
2)) المواشي، والمتفق على وجوب الزكاة فيه منها بين الفقهاء هو: الغنم والماعز منها، والبقر والجواميس منها، والإبل بأنواعها وأشكالها، واختلفوا في وجوب الزكاة في غيرها من الحيوانات، كالخيل والنحل و... على أقوال ومذاهب.
3)) الزروع، وهي كل ما يستنبت في الأرض قصدا، وقد اتفق الفقهاء في بعض شروط وجوب الزكاة فيها، واختلفوا في بعضها الآخر، على أقوال ومذاهب.
ومن المسلمات أيضا لدى الفقهاء أن يكون الواجب الذي يُخرج من الزكاة للفقراء مالا يمكن لهم الاستفادة منه، لأن الزكاة وجبت لهم لقضاء مصالحهم، وهي لا تكون إلا بالمال، ويستشف ذلك من مفهوم الآية الكريمة السابقة: (وَالَّذِينَ فِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ مَعْلُومٌ، لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ) (المعارج:24-25)،
ومن هنا وجب بيان تعريف المال شرعا، وهل تكون المنافع مالا، وإذا كانت كذلك فهل كل أنواعها يعد مالا أو بعضه، وما هي أنواع المنافع.
ولهذا فإنني سوف أبدأ بتعريف المال، ثم بتعريف المنافع، وبيان أنواعها، ثم بيان ما إذا كانت من المال عند الفقهاء أو ليست من المال عندهم، ثم بيان جواز إخراجها عن زكاة المال في مذاهب الفقهاء، وهو بحث ليس سهلا، لأن تلك العناصر لا يتحدث عنها الفقهاء كثيرا، وإنني سوف أستعين بالله تعالى على تبين ذلك، مستندا في ذلك على نصوص الفقهاء قدر الإمكان ثم على قواعد الفقهاء العامة.
ثم إنني سوف أبين حكم دفع الزكاة بإسقاط دين عن مستحق الزكاة، بمعنى إسقاط المزكي الدائن الدين عن مدينه بنية أن يكون ذلك من الزكاة الواجبة عليه، لأن له صلة بالموضوع الذي نحن بصدده، كما سوف ننتهي إليه في نهاية البحث.
تعريف المال:
اختلف الفقهاء في تعريف المال على أقوال، مجملها كما يلي:
عرف الحنفية المال بأنه: (ما يميل إليه الطبع ويجري فيه البذل والمنع ويمكن ادخاره لوقت الحاجة) ابن عابدين4/501، والبحر الرائق 5/277.
وعرفه الشاطبي من المالكية بأنه: (مَا يَقَعُ عَلَيْهِ الْمِلْكُ، وَيَسْتَبِدُّ بِهِ الْمَالِكُ عَنْ غَيْرِهِ إِذَا أَخَذَهُ مِنْ وَجْهِهِ) 2/32، وَقَال ابْنُ الْعَرَبِيِّ: (هُوَ مَا تَمْتَدُّ إِلَيْهِ الأَْطْمَاعُ، وَيَصْلُحُ عَادَةً وَشَرْعًا لِلاِنْتِفَاعِ) 3/178.
وعرّفه الزّركشي من الشّافعيّة في المنثور بأنّه: (ما كان منتفعاً به, أي مستعداً لأن ينتفع به وهو أعيان أو منافع) 3/222 .
وحكى السيوطيّ عن الشّافعيّ أنّه قال: (لا يقع اسم المال إلا على ما له قيمة يباع بها, وتلزم متلفه, وإن قلت, وما لا يطرحه النّاس مثل الفلس وما أشبه ذلك) الأم 5/160.
وعرفه الحنبلية بأنه: (ما يباح نفعه مطلقاً, أي في كلّ الأحوال, أو يباح اقتناؤه بلا حاجة) منتهى الإرادات 2/7.
وعليه فإننا نجد أن المالكية والشافعية والحنبلية اتفقوا بالجملة فيما بينهم على أن المال هو كل ما يمكن أن ينتفع به، سواء كان قليلا أو كثيرا، وسواء كان مما يمكن ادخاره أو لا يمكن ادخاره.
أما الحنفية فقد تفردوا في تعريف المال بأمور، ونصوا -كما تقدم- على أن المال ما يمكن ادخاره ولو إلى لحظة واحدة، أما ما لا يمكن ادخاره مطلقا، فلا يدخل في تعريف المال عندهم، خلافا للجمهور.
وعليه فقد جرى الاختلاف بين الجمهور والحنفية على دخول المنافع في تعريف المال وعدم دخولها فيه، على قولين كما يلي:
أَحَدُهُمَا لِلْحَنَفِيَّةِ: وَهُوَ أَنَّ الْمَنَافِعَ لَيْسَتْ أَمْوَالاً فِي حَدِّ ذَاتِهَا؛ لأَِنَّ صِفَةَ الْمَالِيَّةِ لِلشَّيْءِ إِنَّمَا تَثْبُتُ بِالتَّمَوُّل، وَالتَّمَوُّل يَعْنِي صِيَانَةَ الشَّيْءِ وَادِّخَارَهُ لِوَقْتِ الْحَاجَةِ، وَالْمَنَافِعُ لاَ تَبْقَى زَمَانَيْنِ، لِكَوْنِهَا أَعْرَاضًا، فَكُلَّمَا تَخْرُجُ مِنْ حَيِّزِ الْعَدَمِ إِلَى حَيِّزِ الْوُجُودِ تَتَلاَشَى، فَلاَ يُتَصَوَّرُ فِيهَا التَّمَوُّل.
غَيْرَ أَنَّ الْحَنَفِيَّةَ يَعْتَبِرُونَ الْمَنَافِعَ أَمْوَالاً استحسانا إِذَا وَرَدَ عَلَيْهَا عَقْدُ مُعَاوَضَةٍ، كَمَا فِي الإِْجَارَةِ، وَذَلِكَ عَلَى خِلاَفِ الْقِيَاسِ، وَمَا كَانَ عَلَى خِلاَفِ الْقِيَاسِ فَغَيْرُهُ عَلَيْهِ لاَ يُقَاسُ.
وَالثَّانِي لِجُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ مِنَ الشَّافِعِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ وَالْحَنَبلَيةِ: وَهُوَ أَنَّ الْمَنَافِعَ أَمْوَالٌ بِذَاتِهَا؛ لأَِنَّ الأَْعْيَانَ لاَ تُقْصَدُ لِذَاتِهَا، بَل لِمَنَافِعِهَا، وَعَلَى ذَلِكَ أَعْرَافُ النَّاسِ وَمُعَامَلاَتُهُمْ، وَلأَِنَّ الشَّرْعَ قَدْ حَكَمَ بِكَوْنِ الْمَنْفَعَةِ مَالاً عِنْدَمَا جَعَلَهَا مُقَابَلَةً بِالْمَال فِي عَقْدِ الإِْجَارَةِ، وَهُوَ مِنْ عُقُودِ الْمُعَاوَضَاتِ الْمَالِيَّةِ، وَكَذَا عِنْدَمَا أَجَازَ جَعْلَهَا مَهْرًا فِي عَقْدِ النِّكَاحِ، وَلأَِنَّ فِي عَدَمِ اعْتِبَارِهَا أَمْوَالاً تَضْيِيعًا لِحُقُوقِ النَّاسِ وَإِغْرَاءً لِلظَّلَمَةِ فِي الاِعْتِدَاءِ عَلَى مَنَافِعِ الأَْعْيَانِ الَّتِي يَمْلِكُهَا غَيْرُهُمْ، وَفِي ذَلِكَ مِنَ الْفَسَادِ وَالْجَوْرِ مَا يُنَاقِضُ مَقَاصِدَ الشَّرِيعَةِ وَعَدَالَتَهَا.
وَقَال الشِّرْبِينِيُّ الْخَطِيبُ من الشافعية: الْمَنَافِعُ لَيْسَتْ أَمْوَالاً عَلَى الْحَقِيقَةِ، بَل عَلَى ضَرْبٍ مِنَ التَّوَسُّعِ وَالْمَجَازِ، بِدَلِيل أَنَّهَا مَعْدُومَةٌ لاَ قُدْرَةَ عَلَيْهَا.
(انظر الموسوعة الفقهية الكويتية- مصطلح مال- فقرة 1).
تعريف المنافع:
المنافع جمع مفرده منفعة، وهي الفائدة المتحصلة من الشيء أو الشخص، فمن منافع الدار السكنى فيها، ومن منافع العامل عمله (انظر مجلة الأحكام العدلية المادة /125/، والدر المنثور في القواعد 3/230).
أنواع المنفعة:
والمنافع كما أشار إليه في التعريف على قسمين رئيسين، الأول منفعة الأشياء، والثاني منفعة الأشخاص.
فأما النوع الأول فهو مثل منفعة الدار، ومنفعة الدابة أو السيارة، وهذه يجوز أن تبذل مجانا، وتسمى إعارة، ولها أحكامها وشروطها وأركانها في الفقه الإسلامي، ويجوز أن تبذل بعوض محدد وتسمى إجارة، ولها شروطها وأركانها وأحكامها في الفقه الإسلامي أيضا.
وأما النوع الثاني فمثل بذل الجهد من إنسان في تيسير أمور الآخرين ومساعدتهم وخدمتهم، وهذه يجوز أن تكون بدون بدل، وتسمى مساعدة أو معونة، ويجوز أن تكون ببدل، وتسمى إجارة، ولكل من هذين أحكامه وشروطه وأركانه في الفقه الإسلامي.
حكم دفع المنفعة عن زكاة المال الواجبة على المسلم لمستحقي الزكاة بدلا من المال العيني أو النقدي الواجب دفعه:
هذا الموضوع يجب أن يبحث من زاويتين يحتملهما:
الأولى)) إسقاط الدائن دينه عن مدينه الفقير المسلم مقابل زكاته، بأن يستأجر إنسان آخر مثلا لعمل معين بأجر معين، وبعد إنجاز العمل يصبح الأجير دائنا للمستأجر بأجره، كالطبيب والموظف و.... فيتنازل الأجير عن هذا الأجر للمستأجر الفقير مقابل زكاة واجبة عليه لمستحقيها.
والثانية)) دفع المزكي منفعة شيء أو منفعة شخص، بدلا من المال العيني أو النقدي الواجب عليه في الزكاة، بحسب قيمة هذه المنفعة، كأن يدفع مسلم غني داره لآخر فقير ليسكنها مدة معينة، أو يعمل له شيئا بأجر ثم يجعل ذلك العمل من زكاة ماله المستحقة عليه.
حكم الحالة الأولى:
إن عامة الفقهاء لا يجيزون إسقاط الدين عن المدين الفقير مع عد ذلك من زكاة المال، لأن شرط دفع الزكاة للفقير عندهم تمليكها له، والإسقاط ليس تمليكا، فلا يحل محله، ولا يعطى حكمه، وكذلك لأن في إسقاط الدائن دينه عن مدينه منفعة للدائن مثل ما هو منفعة للمدين، لأن الدائن بذلك يسترد دينه منه، والزكاة شرعت لمصلحة مستحق الزكاة لا لمصلحة المزكي.
وذهب البعض إلى جواز إسقاط الدين عن المدين المستحق للزكاة، وعد ذلك من الزكاة.
جاء في الموسوعة الفقهية الكويتية في ذلك ما يلي:
(لاَ يَجُوزُ لِلدَّائِنِ أَنْ يُسْقِطَ دَيْنَهُ عَنْ مَدِينِهِ الْفَقِيرِ الْمُعْسِرِ الَّذِي لَيْسَ عِنْدَهُ مَا يَسُدُّ بِهِ دَيْنَهُ وَيَحْسِبَهُ مِنْ زَكَاةِ مَالِهِ، فَإِنْ فَعَل ذَلِكَ لَمْ يُجْزِئْهُ عَنِ الزَّكَاةِ، وَبِهَذَا قَال الْحَنَفِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ وَالْمَالِكِيَّةُ مَا عَدَا أَشْهَبَ، وَهُوَ الأَْصَحُّ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ، وَقَوْل أَبِي عُبَيْدٍ، وَوَجْهُ الْمَنْعِ أَنَّ الزَّكَاةَ لِحَقِّ اللَّهِ تَعَالَى، فَلاَ يَجُوزُ لِلإِْنْسَانِ أَنْ يَصْرِفَهَا إِلَى نَفْعِ نَفْسِهِ أَوْ إِحْيَاءِ مَالِهِ، وَاسْتِيفَاءِ دَيْنِهِ.
وَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ فِي قَوْلٍ، وَأَشْهَبُ مِنَ الْمَالِكِيَّةِ، وَهُوَ مَنْقُولٌ عَنِ الْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ وَعَطَاءٍ: إِلَى جَوَازِ ذَلِكَ؛ لأَِنَّهُ لَوْ دَفَعَ إِلَيْهِ زَكَاتَهُ ثُمَّ أَخَذَهَا مِنْهُ عَنْ دَيْنِهِ جَازَ، فَكَذَا هَذَا، فَإِنْ دَفَعَ الدَّائِنُ زَكَاةَ مَالِهِ إِلَى مَدِينِهِ فَرَدَّهَا الْمَدِينُ إِلَيْهِ سَدَادًا لِدَيْنِهِ، أَوِ اسْتَقْرَضَ الْمَدِينُ مَا يَسُدُّ بِهِ دَيْنَهُ فَدَفَعَهُ إِلَى الدَّائِنِ فَرَدَّهُ إِلَيْهِ وَاحْتَسَبَهُ مِنَ الزَّكَاةِ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ حِيلَةً، أَوْ تَوَاطُؤًا، أَوْ قَصْدًا لإِِحْيَاءِ مَالِهِ، جَازَ عِنْدَ الْجُمْهُورِ، وَهُوَ قَوْلٌ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ، وَإِنْ كَانَ عَلَى سَبِيل الْحِيلَةِ لَمْ يَجُزْ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ، وَجَازَ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ، مَا لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ عَنْ شَرْطٍ وَاتِّفَاقٍ، بَل بِمُجَرَّدِ النِّيَّةِ مِنَ الطَّرَفَيْنِ.
لَكِنْ صَرَّحَ الْحَنَفِيَّةُ بِأَنَّهُ لَوْ وَهَبَ جَمِيعَ الدَّيْنِ إِلَى الْمَدِينِ الْفَقِيرِ سَقَطَتْ زَكَاةُ ذَلِكَ الدَّيْنِ وَلَوْ لَمْ يَنْوِ الزَّكَاةَ، وَهَذَا اسْتِحْسَانٌ)) (مصطلح زكاة- فقرة 131).
وحكم الحالة الثانية أن الحنفية لا يجيزون دفع المنفعة بدلا من أموال الزكاة، لأن الزكاة يجب أن تكون مالا، والمنفعة عندهم ليست مالا كما تقدم، لأن المال عندهم ما أمكن ادخاره، وهذه لا يمكن ادخارها، فلا تكون مالا، فلا تجزئ في الزكاة، وعليه فلو غصب إنسان دار إنسان وسكنها سنين ثم ردها إليه فلا يضمن الغاصب أجرتها عن السنين الماضية عندهم، إلا أن تكون معروضة للإٌيجار قبل الغصب، فيضمن الغاصب في هذه الحال أجرتها مدة غصبها، باعتبار أنه مستأجر لها بذلك الغصب بطريق المعاطاة حكما، وكذلك عقار القاصر إذا غُصب، فيضمن غاصبه أجرته عن مدة الغصب استثناء من القواعد العامة في المذهب في ذلك، لضعف القاصر عن الدفاع عن نفسه.
أما جمهور الفقهاء، فيعدون المنافع أموالا بالجملة، ولهذا قرروا وجوب الأجرة على غاصب العقار لتفويته المنفعة على المغصوب منه، على خلاف الحنفية، ومقتضى ذلك يرشح لجواز أن تدفع المنفعة بدلا من الأموال الأخرى في الزكاة عند الجمهور، ولكنني لم أجد من نص على ذلك منهم، وربما – وهو الصحيح في نظري- كان منع ذلك عندهم هو الأولى، لأنهم لا يجيزون دفع قيمة الواجب في الزكاة في الزروع والمواشي، بل عينه، قال النووي في المجموع: (قد ذكرنا أن مذهبنا أنه لا يجوز إخراج القيمة في شئ من الزكوات، وبه قال مالك وأحمد وداود، إلا أن مالكا جوز الدراهم عن الدنانير وعكسه، وقال أبو حنيفة يجوز، فإذا لزمه شاة فأخرج عنها دراهم بقيمتها، أو أخرج عنها ماله قيمة عنده كالكلب والثياب جاز عند أبي حنيفة ولم يجز عند الجمهور) (المجموع 5/428).
وعليه فلو أعطى داره لفقير مستحق للزكاة ليسكنها سنة مثلا، على أن يعدَّ المؤجر أجرتها عن هذه السنة من زكاة ماله، لم يجز عند الحنفية، وقد نص بعضهم على ذلك، فجاء في كشف الأسرار للبزدوي ما نصه: (حتى لو أسكن الفقير داره سنة بنية الزكاة لا يجزيه; لأن المنفعة ليست بعين متقومة, وكذا لو أباحه طعاما بنية الزكاة فأكله الفقير، لا يجزيه عن الزكاة; لأنه أكل مال الغير، وبه لا يحصل الغنى, قال أبو اليسر: الزكاة شرعت لإغناء الفقير، لقوله عليه الصلاة والسلام: "أغنوهم" والواجب فيها هو الإغناء الكامل، وهو تمليك مال محترم متقوم بلا نقصان في نفسه، والإغناء الكامل لا يجب إلا على الغني الكامل كما في التمليك بغير عوض لا يحصل إلا من المالك)) (1/308).
إلا أن بعض الفقهاء الذين قالوا بمالية المنافع، ومنعوا في الوقت نفسه دفع البدل في الزكاة، أجازوا دفع البدل في أموال التجارة، بل جعلوا البدل أصلا، وتشككوا في جواز دفع عين المال، فقال البعض يجوز دفع العين، وقال البعض الآخر لا يجوز دفع عين المال، بل البدل، وذلك لقول عمر رضي الله عنه لحماسٍ: (قوّمها ثمّ أدّ زكاتها). وعليه فإن أخرج زكاة القيمة من أحد النّقدين أجزأ اتّفاقاً، وإن أخرج عروضاً عن العروض، فقد اختلف الفقهاء في جواز ذلك.
فقال الحنبلية وهو ظاهر كلام المالكيّة وقول الشّافعيّ في الجديد وعليه الفتوى: لا يجزئه ذلك، واستدلّوا بأنّ النّصاب معتبر بالقيمة، فكانت الزّكاة من القيمة، كما إنّ البقر لمّا كان نصابها معتبراً بأعيانها وجبت الزّكاة من أعيانها، وكذا سائر الأموال غير التّجارة.
وفي قول ثانٍ للشّافعيّة قديم: يتخيّر المالك بين الإخراج من العَرْض أو من القيمة، فيجزئ إخراج عَرْضٍ بقيمة ما وجب عليه من زكاة العروض.
وفي قولٍ ثالثٍ للشّافعيّة قديمٍ: أنّ زكاة العروض تخرج منها لا من ثمنها، فلو أخرج من الثّمن لم يجزئ. (انظر الموسوعة الفقهية الكويتية- مصطلح زكاة- فقرة 78 و 95).
وعليه فأرى أن الراجح عند جميع الفقهاء عدم جواز دفع المنفعة بدلا من المال الواجب في الزكاة مطلقا، يستوي في ذلك الأموال التجارية والمواشي والمزروعات، وعند الحنفية لا يجوز ذلك كما تقدم أيضاً.
أما على مذهب الحنفية، فواضح، لأن المنافع ليست أموالا عندهم.
وأما على مذهب الجمهور، فكذلك في المواشي والمزروعات قولا واحدا، لأن دفع البدل لا يجوز فيها عندهم، والمنفعة هنا بدل، فلا تغني عن الواجب، وأما في النقود والعروض التجارية، فكذلك لا يجوز أيضا في نظري -رغم أن البدل فيها عندهم هو الأساس- لأن النص عندهم جاء على دفع النقود، والمنافع ليست نقودا، وإن كانت من الأموال عندهم، فلا تغني عن النقود، وقد نص على ذلك العمراني في البيان شرح المهذب فقال: (ولا يجوز أن يخرج من مال التجارة إلا الدراهم أو الدنانير أو عرضا بعينه) 3/324.
وسوف أضرب مثالاً على ما تقدم، يوضحه ويشرحه:
طبيب غني يملك النصاب، وقد حال عليه الحول، ووجب عليه مبلغ من المال للزكاة، وهو يداوي المرضى من الفقراء والأغنياء، جاءه مرة مريض فقير، فداواه على أجرة محددة مسبقا، ثم عجز المريض عن دفع هذه الأجرة، فهل يجوز للطبيب إعفاء مريضه من الأجرة، وعدِّ ذلك من زكاة ماله الواجبة عليه، فيسقط عنه من الزكاة الواجبة عليه بمقدار هذه الأجرة؟؟
الجواب:
ج)) يجب بحث هذا الموضوع من زاويتين يحتملهما:
الأولى)) إسقاط الدائن دينه عن مدينه الفقير المسلم مقابل زكاته.
والثانية)) دفع المزكي لفقير مسلم منفعة مقوَّمة بمال، وعد ذلك من زكاة ماله، بحسب قيمة هذه المنفعة.
وجواب الأولى أن عامة الفقهاء لا يجيزون إسقاط الدين عن المدين الفقير وعد ذلك من زكاة المال، لأن شرط دفع الزكاة للفقير تمليكها له، والإسقاط ليس تمليكا، فلا يحل محله، ولا يعطى حكمه، وذهب البعض إلى جواز إسقاط الدين عن المدين المستحق للزكاة، وعدِّ ذلك من الزكاة.
وجواب الثانية أن الحنفية والجمهور لا يجيزون –في نظري- دفع المنفعة بدلا من أموال الزكاة.
أما عند الحنفية، فلأن الزكاة يجب أن تكون مالا، والمنفعة عندهم ليست مالا، لأن المال عندهم ما أمكن ادخاره، وهذه لا يمكن ادخارها، فلا تكون مالا، فلا تجزئ في الزكاة.
وكذلك عند الجمهور من الفقهاء، لأنهم يشترطون في المدفوع من زكاة الزروع والمواشي أن يكون من عين المال الذي وجبت فيه الزكاة، والمنفعة غير ذلك، ويشترطون في المدفوع من مال التجارة أن يكون من النقود أو الأعيان، حصرا، والمنافع غير ذلك أيضا.
والله تعالى أعلم.
9/من شوال/1429هـ و 9/10/2008م
أ.د.أحمد الحجي الكردي
خبير في الموسوعة الفقهية
وعضو هيئة الفتوى في دولة الكويت