المال الموروث
متى تجب زكاة المال الموروث؟
أعند ثبوته في الذمة؟ أم عند تقسيمه بين الورثة وقبضه من قبلهم؟
وإن كان المال الموروث عروض تجارة، فهل تلزم نية التجارة فيه، أم لا؟
وهل يجب على الورثة إخراج الزكاة الواجبة على الميت من تركته
إذا وجبت عليه في حياته ولم يخرجها؟؟
مقدمــة:
سوف أقسم هذا البحث إلى قسمين رئيسين:
الأول: هو زكاة المال الموروث.
والثاني: هو الزكاة الواجبة على المتوفى إذا لم يخرجها في حياته.
الموضع الأول:
فأما الموضوع الأول فلا يمكن الولوج فيه قبل تقديم كاف له، يبين فيه تعريف التركة، ووقت انتقالها إلى الورثة، وطبيعة خلافة الورثة عن المورث فيها، وما يتعلق بذلك من بحوث، كما يلي:
تعريف التركة:
التَرِكة في اللغة بفتح التاء وكسر الراء، ما يتركه الميت من ممتلكات بعد موته، وتُخفّف بكسر التاء وسكون الراء([1]).
والتركة في اصطلاح الفقهاء: (ما يتركه الميت من الأموال صافياً عن تعلق حق الغير بعين من المال)([2]) هذا ما عرّفها به الحنفية.
وعرّفها المالكية بأنها: (حق يقبل التجزي، يثبت لمستحق بعد موت من كان ذلك له)([3]).
وعرفها الشافعية بأنها: (ما يخلّفه الميت)
ومن النظر في التعريفات السابقة نرى أن الشافعية والمالكية متفقون على أن التركة هي كل ما يخلفه الميت، فيدخل في ذلك المال، كالأعيان، والحقول المالية، كخيار العيب، وحقوق الارتفاق، والحقوق الشخصية المتعلقة بالمال، كحق الشفعة، وخيار الشرط، وحق المطالبة بالقصاص.... وقد نص على ذلك المالكية بالتفصيل، على خلاف الحنفية الذين يَقْصُرون التركة على ما تركه الميت من أموال خاصة، فيخرج بذلك الحقوق الشخصية، كخيار الشرط، وخيار الرؤية، وحق الشفعة... فإنها لا تدخل في التركة، ولا تورث عندهم، وكذلك المنافع، لأنها ليست أموالاً في مذهبهم، أما الحقوق المالية، كخيار العيب، وخيار التعيين، فإنها تدخل في تعريف المال عندهم، فتدخل في التركة، وتورث([4]).
هذا ويلحق بالمال هنا باتفاق الجميع، الأموال التي انتقلت للميت بعد موته، إذا كان سببها قد ثبت له في حياته، كما إذا نصب شبكة قبل موته، فوقع فيها صيد بعد موته، فإنه له، ويكون من التركة، وكذلك ديته إذا كان قتلَ خطأ، فإنها تركة عنه.
ويُخرج من التركة بالاتفاق أيضاً، الأموال التي لزمت الميت بعد موته، بسبب قد ثبت في حياته، كما إذا حفر حفرة متعدياً فيها، فسقط فيها إنسان بعد موته، فمات، فإن ديته في تركة المتوفى الأول صاحب الحفرة.
ثم إن الحنفية يَقْصرون التركة على ما بقي من مال المتوفى بعد سداد الديون العينية، فما كان مشغولاً من المال بالديون العينية، كالرهن، لم يعتبر من التركة أصلاً عندهم، أما الجمهور، فإنهم يعدون التركة مجمل ما تركه الميت، سواء شغل بدين عيني أم دين شخصي، أو لم يشغل بدين أصلاً.
ولا بد من التساؤل هنا عن حق الأجل في الديون التي على الميت، أيدخل في التركة ويورث، أم لا يدخل فيها ولا يورث؟
اتفق الفقهاء عدا الظاهرية، على أن الدائن إذا مات، فلا يستحق ورثته ماله من دين على الآخرين الأحياء إلا عند حلول أجله، فلا تحل الديون المؤجلة بموت الدائن.
فإذا مات المدين، فالجمهور على حلول ديونه بموته، مهما كان أجلها متأخراً عن الموت، لأن متعلق الديون في الذمة، وهي منتهية بالموت، كما أن الدين يعتمد على الوثوق الخاص بالمدين، وهو أمر شخصي لا علاقة له بالمال، فلا يورث.
وذهب الحنبلية إلى أن الآجال تورث، فإذا مات المدين، وعليه ديون مؤجلة، فإن ديونه تبقى إلى أجلها، ولا يطالَب الورثة المدينين بها إلا عند حلول الأجل، لأن حق الأجل حق ملحق بالمال، فأعطي حكمه، فكان من التركة.
وذهب المالكية في ذلك([5]) مذهباً وسطاً، فقالوا: الأصل في الآجال أن لا تورث، إلا في حالين، فإنها تورث فيهما، ويبقى الدين إلى أجله، وهما:
الأول)) أن ينص الدائن في دينه على عدم حلول الدين بموت المدين، فإن الدين لا يحل هنا للشرط.
الثاني)) أن تكون وفاة المدين بعدوان من الدائن، فإنه لا يحل الدين هنا، معاملة له بنقيض قصده، للقاعدة الفقهية: (من استعجل الشيء قبل أوانه عوقب بحرمانه)([6]).
الحقوق المتعلقة بالتركة:
إذا مات الإنسان تعلق بتركته ـ بحسب التعريف السابق لها ـ حقوق متعددة متفاوتة في الدرجة، فإذا اتسعت التركة لكل تلك الحقوق أخرجت منها جميعاً، وإذا ضاقت عنها، كان لا بد من تقديم بعضها على بعض بحسب الأولوية، وقد اتفق الفقهاء على ترتيب هذه الحقوق، إلا جزئيات صغيرة اختلفوا فيها، وذلك حسب الترتيب الآتي:
1 ـ قضاء الديون المتعلقة بأعيان من التركة([7]):
إذا كان في التركة ديون متعلقة بأعيان التركة أو ببعض أعيانها، كما إذا كان بعض التركة مرهوناً، أو محتجزاً بثمنه، أو محتجزاً بأجرته لدى الأجير الذي لعمله أثر فيه... فتستخرج هذه الحقوق من التركة ـ في حدود قيمة العين التي تعلق الحق بها ـ أولاً، ولم يقدم عليها شيء من الحقوق الأخرى، هذا ما ذهب إليه جمهور الفقهاء، وذهب الحنبلية والحنفية في قول ضعيف عندهم، إلى أن سداد الديون مطلقاً، سواء كانت شخصية أو متعلقة بأعيان التركة، يكون بعد التجهيز والتكفين، لا قبله.
الأدلة:
استدل الجمهور لقولهم بأن الديون المتعلقة بأعيان التركة متعلقة بعينها قبل الوفاة، والتجهيز والتكفين يتعلق بالتركة بالوفاة، فكان تعلق التجهيز والتكفين بالتركة بعد تعلق الديون العينية بها، فكان بعدها في الاستيفاء، على خلاف الديون العادية، فإنها متعلقة بذمة المدين لا بماله، ولا تنتقل إلى المال إلا بالوفاة، فلا تكون بذلك مقدمة على التجهيز والتكفين، على خلاف الديون المتعلقة بأعيان من التركة.
واستدل الحنبلية لمذهبهم، بأن التجهيز والتكفين حاجات ضرورية بشخص المتوفى، وهي مقدمة على الديون في الحياة، فكذلك بعد الموت.
2 ـ تجهيز الميت وتكفينه([8]):
يلي إخراج الديون العينية في الاستحقاق على مذهب الجمهور-كما تقدم- تجهيز الميت وتكفينه، وهما مقدمان على سائر الديون الأخرى لدى جماهير الفقهاء، لم يخالف في ذلك إلا الظاهرية، ودليل الجماهير هنا، أن التجهيز والتكفين حاجة ضرورية للميت، فتقدم على سائر ديونه العادية، كما تقدم حاجاته الضرورية على ديونه في حياته، وهي مخالفة للديون العينية، ذلك أن الديون العينية تعلقت بعين المال قبل الوفاة التي بها تعلق حق التجهيز والتكفين، أما الديون العادية فلا تتعلق بالمال إلا بالوفاة، فلا تكون مقدمة على التجهيز بخلافها، ولما كان التجهيز والتكفين أهم منها كان مقدماً عليها.
هذا والتجهيز والتكفين المقصودان هنا، هما المعتادان في حدود السنة، وهما مختلفان باختلاف حال الميت في حياته، يساراً وإعساراً من حيث القيمة، وذهب بعض الحنفية، إلى أن التركة إذا استغرقت بالدين، وطلب الغرماء التضييق في التجهيز والتكفين، يجابون إلى طلبهم، وينزل به إلى كفن الضرورة، وهو ثوبان للرجل، وثلاثة أثواب للمرأة.
وقد ذهب جمهور الفقهاء، إلى أنه كما يقدم تجهيز الميت وتكفينه على ديونه العادية، يقدم عليها أيضاً ما يلزمه من تجهيز غيره وتكفينه إذا مات قبله، وهو من تجب عليه نفقته في حياته، كزوجته، وخادمه، وذهب الحنبلية إلى أن المقدم على الديون عامة هو تجهيزه هو وحده، أما من يلزمه تجهيزه إذا مات قبله، فلا يخرج من تركته إلا بعد إخراج الديون العينية، وقد نص المالكية على أن الذي يلزم الميت من تجهيز غيره، هو ما ثبت عليه بغير القرابة، أما تجهيز الأقرباء فلا يلزمه.
3 ـ قضاء الديون العادية([9]):
الديون العادية هي الديون المتعلقة بذمة المدين، دون أن يكون لها أي تعلق بعين المال، كالقرض، وهي مقدمة بالجملة لدى جميع الفقهاء على ما عداها من الحقوق، سوى الديون العينية والتجهيز والتكفين، كما تقدم، إلا أن للديون أنواعاً مختلفة، للفقهاء فيها تفصيل، فهي إما أن تكون للعباد كالقرض، وإما أن تكون ديونا لله تعالى، كدين الزكاة، ونفقة الحج الواجب، والنذور، والكفارات، وفدية الصلاة المتروكة، والصيام الفائت،......
فأما ديون العباد، فواجبة الوفاء بعد التجهيز باتفاق الفقهاء، سواء أوصى بها المدين أو لا ما دامت ثابتة.
أما ديون الله تعالى، فقد ذهب الحنفية إلى أنها لا تلزم الورثة، ولا يجب إخراجها من التركة، إلا إذا أوصى بها المتوفى، فإنها تخرج حينئذ من ثلث التركة على أنها وصية، وذهب الجمهور إلى أنها ديون يجب وفاؤها من كل التركة كديون العباد تماماً، أوصى بها أو لم يوص على السواء، بل إنها مقدمة على ديون العباد في الإخراج عند الشافعية.
وذهب المالكية، إلى أن ديون الله تعالى يجب إخراجها كديون العباد، إلا أن المتوفى إن أشهد عليها في حياته أخرجت من كل التركة، فإن لم يشهد عليها أخرجت من الثلث فقط، وهي على أية حال مؤخرة عندهم عن ديون العباد.
وقد قسم الحنفية ديون العباد إلى قسمين مرتبين في الإخراج، فالقسم الأول هو ديون الصحة، وهي الديون الثابتة بغير إقرار الميت، أو بإقراره في حال صحته، سواء ثبتت عليه في صحته أو مرضه.
والقسم الثاني هو ديون المرض، وهي الديون الثابتة بإقراره في مرضه لا غير، فيقدم في الإخراج دين الصحة أولاً، ثم دين المرض، لتهمة المحاباة فيه، فإذا ضاقت التركة عنهما، قضي دين الصحة دون دين المرض، هذا ويدخل الحنفية في دين الصحة الدين الثابت بإقرار المريض إذا كان له سبب معروف، كقيمة دواء، أو طعام، أو أجرة مسكن، احتاجها في مرضه....
أما جمهور الفقهاء، فيسوون بين ديون الصحة وديون المرض، ولا يفرقون بينهما في حق الإخراج من التركة.
4 ـ إنفاذ الوصايا:
بعد سداد ديون العباد، بجميع أنواعها، تنفذ الوصايا الصحيحة، فإذا ترك الميت وصية صحيحة أُنفذت من التركة بعد سداد الديون، سواء كانت لإنسان معين، أو للفقراء والمساكين، أو.....، وسواء كانت تبرعاً منه، أو وفاء لواجب ديني عليه، كدين الزكاة والكفارات.... وهذا مذهب الحنفية، وذهب الجمهور ـ كما تقدمت الإشارة إليه ـ إلى أن وفاء الواجبات الدينية دين كسائر الديون، يخرج من التركة قبل الوصايا وإن لم يوص بها، ما دامت ثابتة.
هذا والوصية بجميع أنواعها حدودها القصوى ثلث التركة، فلا تنفذ من أكثر من ذلك، وقد تقدم هذا في شروط الوصية، فإذا جاوزت الوصايا ثلث التركة، أُنفذ منها ما خرج من الثلث، وتوقف الباقي على إذن الورثة الكبار العاقلين البالغين، إن أجازوه نفذ، وإلا بطل، ويقدم في ضمن الثلث بعض الوصايا على بعض بترتيب معين بينه الفقهاء في كتبهم.
5 ـ المواريث:
بعد إنفاذ الوصايا في الحدود المتقدمة، ما يبقى من التركة هو للورثة، بحسب أولوياتهم، وفروضهم، التي بيّنها القرآن والسنّة، وقعّدها ونسّقها الفقهاء، وفصلوها في كتبهم.
6 ـ استحقاق من أقر له المتوفى بنسب على غيره لم يثبت:
إذا لم يكن للمتوفى وارث بفرض أو تعصيب أو رحم، دفع المال لمن أقرّ له المورث قبل وفاته بنسب على الغير لم يثبت -إن وجد-، على أنه أولى به من غيره، لوجود النسب بالجملة، كمن أقرّ لآخر بأنه أخوه، فنفى الأب ذلك، ثم مات المقِرّ، ولم يكن له وارث، فإن المال يدفع إلى الأخ المقرّ له، ولو لم يثبت نسبه بهذا الإقرار، فإذا ثبت النسب هنا بالإقرار لموافقة الأب، أو لأن النسب مباشر وليس فيه تحميل على الغير، ورث المقَرّ له بنسبه ضمن الورثة، ولم يؤخر عنهم.
7 ـ الموصى له بما زاد عن ثلث المال:
إذا لم يكن للمتوفى وارث، ولا مقرّ له بنسب على الغير لم يثبت، وكان هنالك موصى له بما زاد عن ثلث التركة، نفذت الوصية كلها له، لعدم وجود مستحِقّ لها من الورثة، لأن ما زاد عن الثلث من الوصية يعد صحيحاً موقوفاً على إجازة الورثة، توفيراً لحقّهم، فلما لم يكن هنالك وارث ما، نفذت الوصية لعدم المعارض، هذا فيما زاد عن الثلث، أما ما هو ضمن الثلث، فهو نافذ مطلقاً، وُجد وارث أو لا، ما دامت الوصية صحيحة مستوفية لشروطها.
8 ـ بيت المال:
إذا لم يكن للتركة وارث ولا مقَرٌّ له بنسب على الغير لم يثبت، ولا موصى له بما زاد عن الثلث، وضعت التركة في بيت مال المسلمين (الخزانة العامة) على أنها مال لا مالك له، كاللقطة، لا على أن بيت المال وارث لمن لا وارث له.
طبيعة خلافة الوارث عن المورث([10]):
خلافة الوارث عن المورث في الفقه الإسلامي خلافة إجبارية، وهي السبب الوحيد من أسباب الملكية الإجبارية في الشريعة الإسلامية، لهذا فإنها لا ترتدّ بالرد، ولكن تقبل النقل بعد الثبوت، بأي من العقود والتصرفات الناقلة للملكية، كالبيع، والهبة، والإعارة...
وهي خلافة في الحقوق دون الواجبات، ذلك أن الوارث يخلف مورثه فيما في التركة من أموال أو حقوق تصح الخلافة فيها ـحسب ما جاء في تعريف التركةـ أما الديون التي عليه، فلا يخلفه فيها الورثة باتفاق الفقهاء، سواء كانت ديوناً للعباد، أو ديوناً لله تعالى، إلا أن يتبرعوا هم بها.
ولكن ما هي طبيعة هذه الخلافة، أو طبيعة تعلق حق الورثة بالتركة، أهو تعلق كامل في عين المتروكات، أم تعلق ناقص بقيمة التركة؟؟؟
إذا كانت التركة غير مدينة، تعلّق حق الورثة بأعيان التركة وقيمتها تعلقاً كاملاً، فلا حق لأحد أياً كان أن يأخذها منهم مهما دفع من المال، إلا أن يوافقوا هم على ذلك، إذا كانوا أهلاً للتصرف.
فإذا كانت التركة مدينة، كان حق الدائنين متعلقاً بقيمة التركة دون أعيانها، أما حق الورثة فمتعلق بأعيان التركةً، ولهذا فإن للورثة تسديد الديون من أموالهم الخاصة، وعندها تسلم لهم التركة جبراً عن الدائنين، ولا خيار للدائنين في ذلك.
هذا ولا يُلزم الورثةُ بسداد الدين إلا في حدود قيمة التركة، لكن إذا كانت الديون تزيد عن التركة، لم تسلّم التركة للورثة بدفع قيمتها فقط، ولكن بدفع الدين كله، لتعلّق حق الغرماء بكامل الدين، فالورثة بالخيار هنا، بين دفع كل الدين وأخذ التركة، أو التخلي عن التركة للغرماء إذا طلبوا ذلك.
هذا في عن الورثة في التركة بعد وفاة المورث، وهل يثبت للورثة حق في التركة قبل ذلك؟
اتفق الفقهاء على أنه ليس للورثة حق في مال المورث مطلقاً إذا كان حيا صحيحاً غير مريض، فإذا مرض مرض الموت، تعلّق حق الورثة بثلثي ماله، لضعف ذمته بذلك المرض، وبقي الثلث خالياً عن أي حق لهم، لقوله صلى الله عليه وسلم: ((إن الله تصدّق عليكم بثلث أموالكم زيادة في أعمالكم))([11]).
وهل هذا التعلق يكون في أعيان ثلثي التركة، أم في قيمة ذلك؟؟؟
اتفق الحنفية على أن حق الورثة يتعلق بمالية ثلثي التركة في حق الغرباء عن التركة، دون أعيان هذين الثلثين، ولهذا، فإن للمريض قبل الوفاة أن يتصرف بماله كله مع الغرباء، ما دام هذا التصرف لا يؤثر في قيمة ثلثي التركة، كبيعه بثمن المثل، أما التصرف المؤثر في قيمتها، كالهبة، أو المحاباة في البيع، فيباح له في ضمن ثلث المال فقط، إذا كان مع الغرباء، ويمنع فيما وراء الثلث، لتعلق حق الورثة.
وأما في التصرّف مع الورثة أنفسهم، فقد ذهب الصاحبان إلى أن حق الورثة هنا يتعلق بمالية التركة أيضاً، ولهذا سووا في صحة التصرف أو بطلانه أو توقفه، بين أن يكون مع وارث، أو مع غريب عن التركة.
وذهب الإمام أبو حنيفة، إلى أن حق الورثة يتعلق بأعيان التركة في التصرف مع الورثة، على خلاف الغرباء، ولهذا لم يكن للمورث أن يبيع في مرضه شيئاً من التركة من أحد الورثة، ولو كان ذلك بثمن المثل، خلافاً للغرباء، كما تقدم.
وقت انتقال ملكية التركة إلى الورثة:
إذا لم يكن في التركة دين، أو حق لأحد، انتقلت التركة إلى الوارث بمجرد وفاة المورث، باتفاق الفقهاء، بل إنه روي عن محمد بن الحسن أنه قال: تنتقل في اللحظة الأخيرة من حياة المورث، بدلالة إرث زوجته منه، لأن الزوجية تنقطع بالموت.
فإذا كانت التركة مدينة، فقد اختلف الفقهاء في وقت انتقالها إلى الوارث على مذهبين:
* فذهب الشافعية، والحنبلية في المشهور عنهم، إلى أنها تنتقل إلى الوارث بالموت مباشرة، مثقلة بالدين الذي عليها.
* وذهب جمهور الفقهاء، من الحنفية، والمالكية، وبعض الحنبلية، إلى أنها إن كانت مستغرقة بالدين، لم تنتقل لوارث حتى توفى الديون كلها، وفيها تجهيز الميت وتكفينه، وهي من تاريخ الوفاة إلى تاريخ السداد على ذمة الميت، ذلك أن ذمة الميت قائمة عندهم حكماً حتى تصفى التركة، فإذا سددت الديون، انتقلت إلى الورثة من تاريخ السداد، تحقيقاً لمبدأ (لا تركة قبل سداد الديون).
فإذا لم تكن التركة مستغرقَة بالدين، انتقل منها إلى الورثة بمجرد الوفاة مقدار ما يخلو عن الدين منها، ويبقى على ذمة الميت ما يقابل الدين، فإذا كان الدين يشغل ربعها مثلا، انتقل إلى الورثة بالوفاة ثلاثة أرباع التركة، ويبقى الربع على ذمة الميت مشغولاً بالدين، وهكذا.... مع الإشارة إلى أن حق الدائنين في هذه الحال ثابت في جزء شائع في التركة، فإذا تلف من التركة قبل سداد الدين جزء، انتقل حقهم إلى جزء آخر يساويه، ولو استغرق هذا كل التركة.
وقد ترتب على اختلاف هاتين النظريتين الفقهيتين، اختلاف في أحكام عديدة، منها:
1 ـ أن نماء التركة يكون للورثة من تاريخ وفاة المورث عند الشافعية في كل الأحوال، فإذا كانت التركة بستاناً فأثمر، أو آلة فأنتجت... كان ذلك النماء خالصاً للورثة، ولا حق للدائنين فيه مطلقاًَ، أما على مذهب الجمهور، فيكون النماء للورثة إذا كانت التركة خالية عن الدين، فإذا كانت مستغرقة بالدين، كان النماء كله للغرماء، فإذا كانت التركة مشغولة بدين غير مستغرق، كان النماء موزعاً بين الغرماء والورثة، كل على قدر حصته فيها.
وعلى هذا إذا كانت قيمة التركة عند وفاة المورث عشرة آلاف، وهي مدينة بأحد عشر ألفاً، ثم نمت قبل سداد الدين فأصبحت أحد عشر ألفاً، كانت كلها للدائنين، وفاء لدينهم، عند الجمهور، ولا شيء فيها للورثة، وكان النماء للورثة دون الدائنين عند الشافعية.
2 ـ مؤونة التركة عند الشافعية تكون على الورثة وحدهم، من تاريخ وفاة المورث، سواء أكانت التركة مدينة أم لا، أما الجمهور فالمؤونة عندهم بحسب الملك، فإن كانت التركة مدينة، فالمؤونة كلها على الغرماء، ولا شيء على الورثة، لعدم تعلق حقهم فيها، وإذا كانت الديون غير مستغرقة للتركة، وجبت المؤونة على الغرماء والورثة، كل على قدر حقه فيها. فإذا كانت التركة مواشي أو زروعاً... كانت نفقاتها من طعام وشراب وسقاية وحماية... على حسب ما تقدم.
3 ـ ما يجدُّ من الملك بسبب المورث، يعتبر كالنماء، كما إذا نصب المورث شبكة للصيد، فوقع فيها صيد بعد وفاته، فإنه كالنماء، يكون للورثة وحدهم عند الشافعية، ويكون للغرماء والورثة، كل على قدر حصته في التركة، عند الجمهور.
4 ـ حق الشفعة يكون للورثة مطلقاً عند الشافعية، ويكون للورثة وحدهم إذا كان لهم حق في التركة عند الجمهور، ولا يكون للغرماء بحال عند الجميع، أما عند الشافعية فلعدم ملكيتهم للتركة أصلاً، وأما عند الجمهور فلأن التركة على ذمة المورث، وليسوا هم خلفاءه في تركته.
وعلى هذا فلو كانت التركة نصف دار، فباع مالك النصف الثاني حصته من أجنبي قبل توزيع التركة، فإن للورثة حق الشفعة عند الشافعية، أما الجمهور فيقولون إذا كانت التركة مستغرقة بالدين فلا شفعة لأحد، وإن كانت غير مستغرقة، فالشفعة للورثة، لأن لهم حقاً في الدار، وهم خلفاء الميت.
5 ـ لا يجوز عند الجمهور قسمة التركة المدينة قبل سداد الدين، لتعلق حق الدائنين، وتجوز القسمة لدى الشافعية، وتكون حصة كل وارث متعلق بها من الدين بمقدارها.
مذاهب الفقهاء في زكاة المال الموروث:
اختلف الفقهاء في وجوب زكاة المال الموروث على الورثة، هل تجب الزكاة عليهم فيه بمجرد وفاة المورث، أو بعد تصفية التركة وقسمتها، وهل يجب على كل منهم زكاة حصته فيها مستقلة عن أمواله الأخرى إن وجدت، فيفردها بحول مستقل بها سواء بلغت بنفسها نصابا أو لنم تبلغ النصاب، أويضمها إلى أمواله الأخرى ويزكيها معها في حولها، وهل يختلف الأمر إذا كانت الأموال الموروثة تجارية كلها أو غير تجارية، نوى بها التجارة أو لا، وذلك كله على أقوال ومذاهب، وربما كان الاختلاف في المذهب الواحد، وسوف أحاول عرض ذلك بإجمال قدر الإمكان.
مذهب الحنفية:
قال السرخسي في المبسوط: ولو أن رجلا ورث عن أبيه ألف درهم، فأخذها بعد سنين، فلا زكاة عليه لما مضى في قول أبي حنيفة رحمه الله تعالى الآخر، وفي قولهما عليه الزكاة لما مضى، ففي هذه الرواية جعل الموروث بمنزلة الدين الضعيف، مثل الصداق وبدل الخلع, وفي ذلك قولان لأبي حنيفة رحمه الله تعالى، فكذلك في هذا، وفي كتاب الزكاة جعل الموروث كالدين المتوسط عند أبي حنيفة رحمه الله, وهو ثمن مال البذلة والمهنة، فقال: إذا قبض نصابا كاملا بعد كمال الحول تلزمه الزكاة لما مضى، وجه تلك الرواية أن الوارث يخلف المورث في ملكه, وذلك الدين كان مال الزكاة في ملك المورث، فكذلك في ملك الوارث, ووجه هذه الرواية أن الملك في الميراث يثبت للوارث بغير عوض، فيكون هذا بمنزلة ما يملك دينا عوضا عما ليس بمال, وهو الصداق، فلا يكون نصاب الزكاة حتى يقبض، يوضحه أن الميراث صلة شرعية، والصدقة للمرأة في معنى الصلة أيضا من وجه، قال الله تعالى: {وآتوا النساء صدقاتهن نحلة} (النساء 4) أي عطية، وما يستحق بطريق الصلة لا يتم فيه الملك قبل القبض، فلا يكون نصاب الزكاة ([12])
وجاء في مجمع الأنهر: ولو اشترى عبدا، أي مما تصح فيه نية التجارة، فخرج الأرض الخراجية والعشرية للتجارة، فنوى عند القبول استخدامه، بطل كونه للتجارة، لاتصال النية بالإمساك للاستخدام، لأن الاستخدام ترك الفعل، فيتم بمجرد النية، كنية الإقامة، وما نوى للخدمة لا يصير للتجارة بالنية ما لم يبعه، فتكون في ثمنه زكاة، إن كان من جنس ما تجب فيه الزكاة، لأن التجارة فعل وعمل، فلا يتم بمجرد النية، كنية السفر والإسلام والإفطار، حيث لا يحصل واحد منها بمجرد النية، وكذا لا يصير للتجارة بمجرد النية ما ورث، لأن النية تجردت عن العمل، لما أن الميراث يدخل في ملكه بغير علمه وصنعه، حتى إن الجنين يرث وإن لم يكن منه فعل، إلا إذا كان الموروث من جنس ما تجب فيه الزكاة([13])
المذهب المالكي:
جاء في المدونة: قال مالك: السنة عندنا التي لا اختلاف فيها أنه لا تجب على وارث زكاة في مال ورثه في دين ولا عرض ولا دار ولا عبد ولا وليدة حتى يحول على ثمن ما باع من ذلك أو اقتضى الحول، من يوم باعه أو قبضه.
وجاء في الشرح: قوله إنه لا يجب في مال ورثه زكاة حتى يحول عليه الحول قول صحيح; لأن الموروث من المال فائدة، والفائدة يستقبل بها الحول من يوم يقبضها مستفيدها، والأموال الموروثة على ضربين: ضرب تجب الزكاة في عينه، وضرب تجب الزكاة في قيمته، فأما ما تجب الزكاة في عينه فإنه على قسمين: قسم ليس فيه عمل قنية، وقسم فيه عمل قنية، فأما ما ليس فيه عمل، فسواء نوى به تجارة أو غيرها، فإن زكاته تؤدى إذا حال عليه الحول من يوم قبضه الوارث، وما كان فيه عمل قنية وهي الصياغة، فإن نوى به التجارة زكاه الحول من يوم يرثه, وإن نوى به القنية فلا زكاة عليه فيه, وإن لم ينو شيئا فهو على أصله في حكم الزكاة وتعلقها به، وما كانت الزكاة في قيمته فسواء نوى به التجارة أو لم ينوها تؤدى زكاته بعد أن يحول الحول على ثمن ما بيع منه من يوم قبضه الوارث, وإن باعه بعرض ونوى به التجارة فحين يحول الحول على العرض الذي قبضه على نية التجارة والإدارة .
ثم ذكر مثالا توضيحيا لما مر من التأصيل، فقال:
(مسألة): ويعتبر الحول على حسب ما يمكن من تنمية المال، فإن كان من الأموال التي لا تنمو إلا بالعمل كالدنانير والدراهم فلا زكاة فيها حتى يحول عليها الحول من يوم يقبضها هو أو من يقوم مقامه من وكيل أو وصي ولو أقامت قبل ذلك أعواما فإن كانت من الأموال التي تنمو بأنفسها كالماشية فقد قال ابن القاسم الزكاة عليه فيها إذا حل عليها الحول فيها من يوم ورثها, وإن لم يقبضها، وقال المغيرة حكمها حكم الدنانير والدراهم لا زكاة فيها حتى يقبضها، وجه قول ابن القاسم أن الماشية تنمو بأنفسها، فلما لم تتعذر عليه تنميتها وجبت عليه فيها الزكاة، ولم يؤثر في إسقاط عدم قبضها لما لم يؤثر في تنميتها، وأما الدنانير والدراهم فإنها لا تنمو إلا بيده وتصريفه، فإذا تعذر قبضه لها تعذر وجه تنميتها، فلم يجب عليه فيها زكاة، ووجه قول المغيرة أن هذا ورث ما لا تجب عليه في عينه الزكاة، فلا زكاة عليه حتى يحول عليه الحول من يوم قبضه، كالذهب والفضة([14]).
كما جاء في المدونة ما يلي: قال مالك: السنة عندنا أنه لا تجب على وارث في مال ورثه الزكاة حتى يحول عليه الحول. وقال الشارح: وهذا كما قال، لما ذكرناه من أنه في يد غيره وهو قادر على تنميته، وقوله حتى يحول عليه الحول يريد من يوم قبضه، أو قبضه من يجوز له قبضه، فيقيم بيده مدة التنمية وهي الحول، فحينئذ يجب عليه زكاته، فأما إذا تعذرت عليه تنميته فلا زكاة عليه فيه, وكذلك لا زكاة عليه بعد قبضه حتى تمضي له المدة المضروبة للتنمية, والله أعلم وأحكم([15]).
وجاء في الشرح الكبير: ولا زكاة في عين فقط ورثت وأقامت أعواما، إن لم يعلم بها، أو بمعنى الواو، أي و لم توقف، أي لم يوقفها حاكم للوارث عند أمين إلا بعد حول يمضي بعد قسمها بين الورثة إن تعددوا، أو بعد قبضها ولو بوكيله، فإن علم بها أو وقفت زكيت لماضي الأعوام من يوم الوقف أو العلم، وهذا التفصيل ضعيف، والمعتمد أن العين الموروثة فائدة يستقبل بها حولا بعد قبضها، وسيصرح به المصنف في قوله: واستقبل بفائدة إلخ واحترز به بقوله فقط عن الحرث والماشية، وقد سبق الكلام عليهما([16]).
وقال الدسوقي في حاشيته: والحاصل أن كلام المدونة يقتضي أنه لا زكاة في تلك العين إلا إذا قبضت، فإذا قبضت استقبل بها حولا، ولا زكاة لما مضى من الأعوام، ولو وقفت وعلم بها، ومفهوم المصنف يقتضي أنها إذا وقفت وعلم بها فإنها تزكى لماضي الأعوام، والمعول عليه مذهب المدونة، من اعتبار القبض فقط في الوجوب، ولا يعتبر القسم فيه، ولو كان هناك شركاء فمتى قبضوه واستقبلوا حولا ولو لم يقسموا، كما يدل عليه قول المدونة، وكذلك الوصي يقبض للأصاغر عينا أو ثمن عرض باعه لهم، فليزك ذلك لحول من يوم قبضه الوصي([17]).
وجاء في التاج والإكليل قوله: قال ابن يونس في تعليل ذلك: لأنه مال موروث لم يصل إلى يد وارثه، فلم تجب عليه زكاته إلا بعد حول من يوم يقبض العين, أصله ثمن العرض الموروث، لأن العرض الموروث كما لم يقبض من العين الموروث, وقبض ثمن العرض، كقبض العين الموروثة، كما أن عرض التجارة كدين التجارة, وقبض ثمن عرض التجارة كقبض دين التجارة، فكذلك الميراث"([18]).
مذهب الشافعية:
جاء في المجموع للنووي: فرع: إذا مات في أثناء الحول وانتقل المال إلى وارثه، هل يبنى على الحول؟ فيه القولان اللذان ذكرهما المصنف، وهما مشهوران، أصحهما باتفاقهم لا يبنى، بل يستأنف حولا من حين انتقل إليه الملك، وهذا نصه في الجديد، والثاني: وهو القديم، أنه يبنى على حول الميت; لأنه يقوم مقامه في الرد بالعيب وغيره، واحتجوا للجديد بأنه زال ملكه كما لو باعه، وفرقوا بينه وبين الرد بالعيب، بأن الرد حق للمال, فانتقل إلى صاحب المال، والزكاة حق في المال، وحكى الرافعي طريقا آخر قاطعا بأنه لا يبنى, وأنكروا القديم, والمذهب أنه لا يبني، فعلى هذا إن كان الموروث مال تجارة لم ينعقد الحول عليه حتى يتصرف الوارث بنية التجارة، وإن كان سائمة, ولم يعلم الوارث الحال حتى حال الحول, فهل يلزمه الزكاة أم يبتدئ الحول من وقت علمه؟ فيه وجهان، بناء على أن قصد السوم هل يشترط؟ وقد سبق بيانه([19]).
وجاء في الأم للشافعي: باب: الرجل إذا مات وقد وجبت في ماله زكاة: قال الشافعي رحمه الله: وإذا مات الرجل وقد وجبت في ماله زكاة وعليه دين وقد أوصى بوصايا، أخذت الزكاة من ماله قبل الدين والميراث والوصايا، وإن مات قبل أن تجب الزكاة فيها ثم حال حولها قبل أن تقسم، أخذت منها الزكاة، لأنها لم تقسم([20]).
مذهب الحنبلية:
قال ابن قدامة في المغني: فصل: ولا يصير العرض للتجارة إلا بشرطين; أحدهما أن يملكه بفعله, كالبيع, والنكاح, والخلع, وقبول الهبة, والوصية, والغنيمة, واكتساب المباحات; لأن ما لا يثبت له حكم الزكاة بدخوله في ملكه لا يثبت بمجرد النية, كالصوم، ولا فرق بين أن يملكه بعوض أو بغير عوض، ذكر ذلك أبو الخطاب, وابن عقيل; لأنه ملكه بفعله, أشبه الموروث، والثاني, أن ينوي عند تملكه أنه للتجارة، فإن لم ينو عند تملكه أنه للتجارة لم يصر للتجارة وإن نواه بعد ذلك، وإن ملكه بإرث وقصد أنه للتجارة, لم يصر للتجارة، لأن الأصل القنية, والتجارة عارض, فلم يصر إليها بمجرد النية, كما لو نوى الحاضر السفر, لم يثبت له حكم السفر بدون الفعل، وعن أحمد رواية أخرى, أن العرض يصير للتجارة بمجرد النية; لقول سمرة: أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن نخرج الصدقة مما نعد للبيع, فعلى هذا لا يعتبر أن يملكه بفعله, ولا أن يكون في مقابلة عوض, بل متى نوى به التجارة صار للتجارة([21]).
وجاء في الإنصاف قوله: باب زكاة العروض: قوله: وتؤخذ منها لا من العروض، هذا الصحيح من المذهب, وعليه الأصحاب, وقطع به أكثرهم, وقال الشيخ تقي الدين: ويجوز الأخذ من عينها أيضا، قوله: ولا تصير للتجارة إلا أن يملكها بفعله بنية التجارة بها, فإن ملكها بإرث, أو ملكها بفعله بغير نية، ثم نوى التجارة بها لم تصر للتجارة, وإن كان عنده عرض للتجارة فنواه للقنية, ثم نواه للتجارة، لم يصر للتجارة، هذا المذهب, وعليه أكثر الأصحاب، قال الزركشي: هذا أنص الروايتين وأشهرهما، واختارها الخرقي, والقاضي, وأكثر الأصحاب، قال في الكافي والفروع: هذا ظاهر المذهب; لأن مجرد النية لا ينقل عن الأصل.... ([22]).
وجاء في فتاوى الهيئة الشرعية لبيت الزكاة الفتاوى التالية:
س)) يرجى بيان الحكم الشرعي في زكاة أموال تركة لم يقم الورثة بقسمتها بإرادتهم سنين عديدة القسمة الشرعية.
ج)) ترى الهيئة أنه إذا لم يقم الورثة بتقسيم التركة بإرادتهم سنين عديدة، فإن الزكاة تحسب في هذه الأموال عند توفر شروطها، وعلى الورثة إخراجها عن كل سنة مضت، إن لم يكن زكاه متى توفرت شروط الزكاة. /الهيئة الشرعية(2/98)/.
س)) ما حكم الزكاة لو تأخر استلام الورثة للتركة لسبب خارج عن إرادتهم؟
ج)) ترى الهيئة بأنه إذا تأخر استلام الورثة للتركة لسبب خارج عن إرادتهم، فملكهم ناقص، ويزكى عند قبضه لسنة واحدة عما مضى من السنوات. /الهيئة الشرعية(2/98)/.
وجاء في الموسوعة الفقهية الكويتية ما نصه: (والمال الموروث صرّح المالكيّة بأنّه لا زكاة فيه إلاّ بعد قبضه، يستقبل به الوارث حولاً، ولو كان قد أقام سنين، وسواء علم الوارث به أو لم يعلم([23])./الموسوعة-مصطلح زكاة-فقرة 18/.
وجاء في فتاوى اللجنة العامة للفتوى في وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية الكويتية ما يلي:
س)) امرأة ورثت عن أبيها تركة مكونة من عقارات وأسهم بالمشاركة مع إخوتها، وقد مضى على وفاة الوالد سنة كاملة ولم توزع التركة بسبب نزاع قائم بين الورثة، والمطلوب معرفته عندما يتم توزيع التركة، هل على نصيب المرأة من التركة زكاة عن الفترة الماضية عندما تستلم نصيبها؟
ج)) على المرأة أن تدفع الزكاة من يوم دخول المال في ملكها، ولو لم تقبضه. والله تعالى أعلم. /2/41/ح/92/.
س)) تركة الوالد بقيت دون تقسيم من وفاة الوالد سنة 1983 إلى 1994م لأسباب خاصة بالورثة، ثم قسمت بعد ذلك:
-هل على التركة زكاة؟ وكيف؟
- إذا علم أن هناك زكاة، كيف إخراجها وقد وزع بعض هذه التركة بين بعض الورثة، هل تعاد الأنصبة؟ أم ماذا؟
ج)) تتعلق الزكاة بنصيب كل وارث بعد القسمة، لأن الإرث ملك قهري يدخل في ملك الورثة جبرا، ويتحقق بذلك شرط وجوب الأداء وهو الملك التام، وقد تحقق شرط الوجوب، وهو بلوغ المال نصابا، وحولان الحول، ويحسب حول الزكاة بعد وفاة المورث ودخول التركة في ملك الورثة، ويجب على كل وارث إخراج زكاة نصيبه عن السنوات السابقة، وتحسب الزكاة بحساب كل سنة على حدة. والله تعالى أعلم. /7/38/ح/94.
س)) ورث رجل مالاً من والدته، وقد تأخرت إجراءات تسلمه لهذا المال مدة شهرين، مع أن والدته معتادة على أن تزكي أموالها، ولكنها توفيت قبل أن يحول الحول على هذا المال، ولكنّ الحول حال بعد أن تسلم هذا الرجل هذا المبلغ، فهل يجب في هذا المال زكاة؟ أفتونا مأجورين.
ج)) ما دامت الأم قد ماتت قبل انتهاء حول الزكاة فلا زكاة عليها في هذا الحول، لأن المال انتقل بالوفاة إلى ورثتها ولم يبق لها، ثم على كل وارث زكاة ما ورثه منها مع باقي أمواله -إن وجد- بدءا من تاريخ الوفاة، هذا إذا كان المال الموروث من أموال الزكاة واستوفى شروط الزكاة، من النصاب والحول، وإلا فلا زكاة فيه. 5/14/ع/2001.
والله تعالى أعلم.
الترجـــــيح
من استعراض ما تقدم من أقوال الفقهاء ومذاهبهم واختلافهم في زكاة المال الموروث، أرى رجحان ما يلي:
- لا تجب الزكاة في الأموال الموروثة مطلقا قبل أن يقبضها الوارث ويتمكن من التصرف فيها، ولو مضى عليها سنون، مهما كان نوعها، لأنها في نظري بمثابة المال الضائع (الضمار) الذي لا يمكن لصاحبه التصرف فيه، ولا يدري متى يجده، وبخاصة إذا كان على التركة ديون أو وصايا أو حقوق تحتاج في إثباتها إلى قضاء، سيما أن الحنفية-كما تقدم- يقولون بعدم انتقال التركة إلى الورثة أصلا قبل تصفيتها من الديون والحقوق التي عليها.
- فإذا قبض الوارث المال الموروث، فهو على أنواع، وأحوال:
1)) أن يكون المال الموروث من الذهب أو الفضة أو النقود بأنواعها، فإذا كان عنده نصاب من المال الزكوي التجاري مسبقا ضمه إليه، وزكاه معه في حوله، وإذا لم يكن عنده نصاب، وكان المال الموروث نصابا، استأنف له حولا من تاريخ قبضه، سواء نوى به التجارة أو الادخار، لأنه مال زكوي لا يحتاج إلى نية التجارة فيه.
2)) أن يكون المال الموروث من العروض التي تصلح للتجارة وتصلح للقنية، فهذه إن نوى بها التجارة وجبت عليه زكاتها من تاريخ قبضها، فإن كان عنده نصاب زكوي ضمه إليه وزكاه معه، وإلا استأنف له حولا جديدا إذا بلغ نصابا، وإذا لم ينو التجارة به فلا زكاة عليه فيه أصلا.
3)) أن يكون المال الموروث من المواشي التي تجب الزكاة فيها (الإبل والبخاتي منها-البقر والجاموس منها- الضأن والماعز منها)، فإن كانت علوفة فلا زكاة فيها وإن قبضها، إذا استمر في علفها، وإن أسامها أو كانت سائمة في أصلها قبل وفاة المورث، فيجب عليه زكاتها إذا كانت نصابا وتم لها حول بعد قبضها، وإلا فلا زكاة فيها.
الموضوع الثاني:
سوف أورد مذاهب الفقهاء فيه أولاً، ثم أبين الراجح عندي من ذلك، كما يلي:
مذهب الحنفية:
وَإِنْ كَانَ الدَّيْنُ مِنْ حُقُوقِ اللَّهِ -تَعَالَى- كَالصَّوْمِ وَالصَّلاَةِ وَالزَّكَاةِ وَحِجَّةِ الإِْسْلاَمِ وَالنَّذْرِ وَالْكَفَّارَةِ، فَإِنْ أَوْصَى بِهِ الْمَيِّتُ وَجَبَ تَنْفِيذُهُ مِنْ ثُلُثِ مَالِهِ الْبَاقِي بَعْدَ دَيْنِ الْعِبَادِ، وَإِنْ لَمْ يُوصِ لَمْ يَجِبْ ([24]).
مذهب المالكية:
بَعْدَ التَّجْهِيزِ وَالتَّكْفِينِ تُقْضَى دُيُونُ الْمَيِّتِ الَّتِي لآِدَمِيٍّ كَانَتْ، بِضَامِنٍ أَمْ لاَ. حَالَّةً كَانَتْ أَوْ مُؤَجَّلَةً، لأَِنَّ الْمُؤَجَّلَةَ تَحِل بِالْمَوْتِ، ثُمَّ هَدْيُ تَمَتُّعٍ إِنْ مَاتَ بَعْدَ رَمْيِ الْعَقَبَةِ، أَوْصَى بِهِ أَمْ لاَ، ثُمَّ زَكَاةُ فِطْرٍ فَرَّطَ فِيهَا، وَكَفَّارَاتٌ فَرَّطَ فِيهَا، مِثْل كَفَّارَةِ الْيَمِينِ وَالصَّوْمِ وَالظِّهَارِ وَالْقَتْل إِذَا أَشْهَدَ فِي صِحَّتِهِ أَنَّهَا بِذِمَّتِهِ، فَإِنَّ كُلا مِنْهَا يَخْرُجُ مِنْ رَأْسِ الْمَال، سَوَاءٌ أَوْصَى بِإِخْرَاجِهَا أَمْ لَمْ يُوصِ، لأَِنَّ الْمُقَرَّرَ عِنْدَهُمْ أَنَّ حُقُوقَ اللَّهِ مَتَى أَشْهَدَ فِي صِحَّتِهِ بِهَا خَرَجَتْ مِنْ رَأْسِ الْمَال، أَوْصَى بِهَا أَمْ لاَ، فَإِنْ أَوْصَى بِهَا، وَلَمْ يُشْهِدْ فَمِنَ الثُّلُثِ، وَمِثْل الْكَفَّارَاتِ عِنْدَهُمْ الَّتِي أَشْهَدَ بِهَا زَكَاةُ عَيْنٍ حَلَّتْ وَأَوْصَى بِهَا، وَزَكَاةُ مَاشِيَةٍ حَلَّتْ وَلاَ سَاعِي، وَلَمْ تُوجَدِ السِّنُّ الَّتِي تَجِبُ فِيهَا، فَإِنْ وُجِدَ فَهُوَ كَالدَّيْنِ الْمُتَعَلِّقِ بِحَقٍّ، فَيَجِبُ إِخْرَاجُهُ قَبْل الْكَفَنِ وَالتَّجْهِيزِ([25]).
مذهب الشَّافِعِيَّةُ:
إِنَّهُ بَعْدَ التَّجْهِيزِ وَالتَّكْفِينِ تُقْضَى الدُّيُونُ الْمُتَعَلِّقَةُ بِذِمَّةِ الْمَيِّتِ مِنْ رَأْسِ الْمَال سَوَاءٌ أَكَانَتْ لِلَّهِ - تَعَالَى - أَمْ لآِدَمِيٍّ أَوْصَى بِهَا أَمْ لاَ، لأَِنَّهَا حَقٌّ وَاجِبٌ عَلَيْهِ، وَيُقَدَّمُ دَيْنُ اللَّهِ - تَعَالَى - كَالزَّكَاةِ وَغَيْرِهَا عَلَى دَيْنِ الآْدَمِيِّ، وَذَلِكَ فِيمَا إِذَا تَلِفَ الْمَال، فَلَوْ كَانَ بَاقِيًا فَقَدْ تَعَلَّقَ بِهِ حَقُّ الزَّكَاةِ فَتَخْرُجُ قَبْل التَّجْهِيزِ كَمَا قَال الْمَالِكِيَّةُ، وَإِنْ كَانَتِ الدُّيُونُ مُتَعَلِّقَةً بِعَيْنٍ قُدِّمَتْ عَلَى التَّجْهِيزِ، كَمَا سَبَقَ ([26]).
مذهب الْحَنَبِليَةُ:
إِنَّهُ بَعْدَ التَّجْهِيزِ وَالتَّكْفِينِ يُوفَى حَقُّ مُرْتَهِنٍ لَدَيْهِ، ثُمَّ إِنْ فَضَل لِلْمُرْتَهِنِ شَيْءٌ مِنْ دَيْنِهِ شَارَكَ الْغُرَمَاءَ، لأَِنَّهُ سَاوَاهُمْ فِي ذَلِكَ، فَإِنْ فَضَل شَيْءٌ مِنْ ثَمَنِ الرَّهْنِ رُدَّ عَلَى الْمَال لِيُقْسَمَ بَيْنَ الْغُرَمَاءِ، ثُمَّ بَعْدَمَا سَبَقَ تُسَدَّدُ الدُّيُونُ غَيْرُ الْمُتَعَلِّقَةِ بِالأَْعْيَانِ، وَهِيَ الَّتِي ثَبَتَتْ فِي الذِّمَّةِ، وَيَتَعَلَّقُ حَقُّ الْغُرَمَاءِ بِالتَّرِكَةِ كُلِّهَا وَإِنْ لَمْ يَسْتَغْرِقْهَا الدَّيْنُ، سَوَاءٌ أَكَانَ الدَّيْنُ لِلَّهِ - تَعَالَى - كَالزَّكَاةِ وَالْكَفَّارَاتِ وَالْحَجِّ الْوَاجِبِ، أَمْ كَانَ لآِدَمِيٍّ، كَالْقَرْضِ وَالثَّمَنِ وَالأُْجْرَةِ، فَإِنْ زَادَتِ الدُّيُونُ عَنِ التَّرِكَةِ وَلَمْ تَفِ بِدَيْنِ اللَّهِ - تَعَالَى - وَدَيْنِ الآْدَمِيِّ يَتَحَاصُّونَ عَلَى نِسْبَةِ دُيُونِهِمْ كَمَال الْمُفْلِسِ، سَوَاءٌ أَكَانَتِ الدُّيُونُ لِلَّهِ - تَعَالَى - أَمْ لِلآْدَمِيِّينَ أَمْ مُخْتَلِفَةً، ثُمَّ بَعْدَ الدَّيْنِ الْوَصِيَّةُ لِلأَْجْنَبِيِّ -وَهُوَ مَنْ لَيْسَ بِوَارِثٍ- مِنْ ثُلُثِ مَا يَفِي مِنَ الْمَال بَعْدَ الْحُقُوقِ الثَّلاَثَةِ، فَإِنْ كَانَتِ الْوَصِيَّةُ لِوَارِثٍ فَلاَ بُدَّ مِنْ إِجَازَةِ بَاقِي الْوَرَثَةِ، وَإِنْ كَانَتْ لأَِجْنَبِيٍّ فَمَا يَزِيدُ عَنِ الثُّلُثِ يَتَوَقَّفُ عَلَى إِجَازَةِ كُل الْوَرَثَةِ([27]).
الترجــــيح
بعد استعراض ما تقدم، أرى في هذا الموضوع رجحان مذهب الحنفية، وعليه:
فإن أوصى المتوفى قبل وفاته بإخراج ديون الله تعالى التي وجبت عليه ولم يخرجها في حياته مع القدرة على ذلك، كدين الزكاة، والكفارات .... فقد وجب عليهم إخراجها من ثلث تركته، كأي وصية صحيحة أخرى، وإذا لم يوص بها، فلا يلزمهم إخراجها من تركته، وهو المسؤول عنها يوم القيامة، إلا أن يتبرعوا بها من التركة أو من مالهم الخاص، برا به، وهم بالغون راشدون، فيؤجرون على ذلك.
وذلك لأن ديون الله تعالى عبادات لا يصح إخراجها في حياته بغير نية العبادة لله تعالى، فتكون الوصية بها قائمة مقام النية، فتلزمهم، وبدون النية لا تصح ولا تسقط عنه في حياته، فلا يلزمهم إخراجها عنه بدون ذلك بعد مماته.
والله تعالى أعلم.
الثلاثاء 26 شوال 1428هـ و 6/11/2007م
أ.د.أحمد الحجي الكردي
[1] المصباح المنير مادة (ترك).
[2] ابن عابدين 6/759 نقلاً عن شروح السراجية.
[3] الشرح الكبير في هامش الدسوقي عليه 4/457.
[4] انظر في ذلك أبا زهرة ص52 – 60، فإن فيه بحثاً موسعاً في ذلك.
[5] أبو زهرة ص43، إلا أن الدسوقي أطلق القول في حلول الدين بموت المدين 4/458.
[6] انظر كتابنا (المدخل الفقهي ـ القواعد الكلية) ص20.
[7] انظر مغني المحتاج 3/4، وابن عابدين 6/759، والدسوقي 4/457 والمجموع 5/144 ـ 147.
[8] انظر ابن عابدين 6/759 ـ 760، ومغني المحتاج 3/3، والمجموع 5/144 والدسوقي 4/458.
[9] انظر الدسوقي 4/458، ومغني المحتاج 3/3، وابن عابدين 6/760.
[10] أبو زهرة ص19 وما بعدها.
[11] أخرجه ابن ماجه (2709) من حديث أبي هريرة، وأحمد في مسنده 6م441 من حديث أبي الدرداء.
[12] "المبســوط 3/42.
[13] "مجمع الأنهر 1/197.
[14] .المـدونة 2/113-114.
[15] "المـدونة 2/113-114.
[16] "الشرح الكبير 1/459.
[17] "الدسوقي 1/459.
[18] [التاج والإكليل، 3/149]
[19] [المجمـوع 5/331].
[20] [الأم 2/13].
[21] المغني 2/337.
[22] الإنصاف 3/154.
[23] الدسوقي 1/458.
[24] شرح السراجية ص 5 وما بعدها ط مصطفى الحلبي، حاشية الدسوقي 4 / 408 ط دار الفكر.
[25] حاشية الدسوقي 4 / 408 ط دار الفكر.
[26] نهاية المحتاج 6 / 76 وما بعدها.
[27] العذب الفائض شرح عمدة الفارض ص 1 / 13.