التأمين الإسلامي والتأمين التقليدي
هل هنالك فروق؟
بحث أعده
أ.د.أحمد الحجي الكردي
خبير في الموسوعة الفقهية وعضو هيئة الفتوى في دولة الكويت
للمشاركة في
(حلقة حوار حول عقود التأمين الإسلامي)
التي تم عقدها في
28-30/10/1422هـ
الموافق 12-14/1/2002م
في جدة، بالمملكة العربية السعودية بدعوة من البنك الإسلامي للتنمية
ــــــــــــــــــــ
المقدمة
الحمد لله رب العالمين، وأفضل الصلاة وأتم التسليم، على سيدنا محمد، وعلى آله وأصحابه أجمعين، والتابعين، ومن تبع هداهم بإحسان إلى يوم الدين، وبعد:
فإن عقد التأمين من العقود الجديدة نسبيا في العالم كله، وهو أكثر جدة في العالم الإسلامي منه في سائر أنحاء العالم، حيث يذكر علماء القانون، أن تاريخ ظهور عقد التأمين في أوربا كان في أوائل القرن الرابع عشر الميلادي، ولم يظهر في الدول الإسلامية إلا بعد ذلك بكثير، وربما لم يعرفه المسلمون إلا قبل قرنين من الزمان، عبر اتصال الشرق بالغرب، وتبادل التجارة بينهما، ولهذا فإننا لن نطمع بالنص على إباحته أو تحريمه من قبل فقهاء السلف الصالح، وفي مراجعهم القديمة، وربما كان أول من عرفه وعرف به وذكر حكمه علامة الشام ابن عابدين، في حاشيته رد المحتار على الدر المختار، حيث تعرض لفكرة عقد التأمين في بحثه في المستأمن تحت اسم (السوكرة) فقال: (مطْلَبٌ مُهِمٌّ فِيْمَا يَفْعَلُهُ التُّجَّارُ مِنْ دَفْعِ مَا يُسَمَّى سَوْكَرَة وَتَضْمِينِ الحَرْبِيِّ مَا هَلَكَ فِي المَرْكبِ، وبما قررناه يظهر جواب ما كثر السُّؤال عنه في زماننا: وهو أنَّه جرت العادة أنَّ التجارَ إذا استأجروا مركباً من حربيّ يدفعون له أجرته، ويدفعون أيضاً مالاً معلوماً لرجل حربي مقيم في بلاده، يسمَّى ذلك المال: سوكرة، على أنه مهما هلك من المال الذي في المركب بحرق أو غرق أو نهب أو غيره، فذلك الرجل ضامن له بمقابلة ما يأخذه منهم، وله وكيل عنه مُسْتأمن في دارنا، يقيم في بلاد السواحل الإسلامية بإذن السُّلْطان، يقبض من التجار مال السوكرة، وإذا هلك من مالهم في البحر شيء يؤدي ذلك المستأمن للتجار بدله تماماً، والذي يظهر لي: أنه لا يحل للتاجر أخذ بدل الهالك من ماله، لأنَّ هذا التزام ما لا يلزم.
فإن قلت: إنَّ المودعَ إذا أخذ أجرة على الوديعة يضمنها إذا هلكت. قُلْتُ: ليست مسألتنا من هذا القبيل، لأن المال ليس في يد صاحب السوكرة، بل في يد صاحب المركب، وإن كان صاحب السوكرة هو صاحب المركب يكون أجيراً مشتركاً قد أخذ أُجْرة على الحفظ، وعلى الحمل، وكل من المودع والأجير المشترك لا يضمن ما لا يمكن الاحتراز عنه، كالموت والغرق ونحو ذلك.
فإن قلت: سيأْتي قبيل « باب كفالة الرجلين » قال لآخر: اسلك هذا الطريق فإنه آمن، فسلك وأخذ ماله لم يضمن، ولو قال: إن كان مخوفاً وأخذ مالك فأنا ضامن: ضمن، وعلله الشَّارح هناك بأنه ضمن الغار صفة السَّلامة للمَغْرور نصاً. اهـ. أي بخلاف الأولى، فإنه لم ينص على الضمان بقوله: «فأنا ضامن»، وفي «جامع الفصولين»: الأَصْل أنَّ المَغْرور إنما يرجع على الغار لو حصل الغرور في ضمن المعاوضة، أو ضمن الغار صفة السلامة للمغرور فيصار كقول الطحان لرب البرّ: اجعله في الدلو فجعله فيه، فذهب من النقب إلى الماء، وكان الطحان عالماً به يضمن، إذ غره في ضمن العقد وهو يقتضي السلامة. اهـ .
قُلْتُ: لا بدَّ في مَسْأَلة التغرير من أن يكون الغار عالماً بالخطر كما يدل عليه مسألة الطَّحان المذكورة، وأن يكون المغرور غير عالم، إذ لا شك أن ربّ البرّ لو كان عالماً بنقب الدلو يكون هو المضيع لما له باخْتياره، ولفظ المغرور ينبىء عن ذلك لغة لما في «القاموس»: غره غراً وغروراً فهو مغرور وغرير: خدعه وأطمعه بالباطل فاغتر هو. اهـ. ولا يخفى أن صاحب السوكرة لا يقصد تغرير التجار، ولا يعلم بحصول الغرق هل يكون أم لا. وأما الخطر من اللصوص والقطاع فهو معلوم له وللتجار، لأنهم لا يعطون مال السوكرة إلاَّ عند شدَّة الخوف طمعاً في أخذ بدل الهالك، فلم تكن مسألتنا من هذا القبيل أيضاً، نعم: قد يكون للتاجر شريك حربي في بلاد الحرب، فيعقد شريكه هذا العقد مع صاحب السَّوكرة في بلادهم، ويأخذ منه بدل الهالك ويرسله إلى التاجر، فالظاهر أن هذا يحل للتاجر أخذه لأنَّ العقدَ الفاسد جرى بين حربيين في بلاد الحرب، وقد وصل إليه مالهم برضاهم فلا مانع من أخذه، وقد يكون التاجر في بلادهم، فيعقد معهم هناك، ويقبض البدل في بلادنا أو بالعَكْس، ولا شك أنه في الأولى إن حصل بينهما خصام في بلادنا لا نقضي للتاجر بالبدل، وإن لم يحصل خصام ودفع له البدل وكيله المُسْتأمن هنا يحل له أخذه، لأن العقد الذي صار في بلادهم لا حكم له، فيكون قد أخذ مال حربي برضاه. وأما في صورة العكس، بأن كان العقد في بلادنا والقبض في بلادهم، فالظَّاهر أنه لا يحل أخذه، ولو برضا الحربي لابتنائه على العقد الفاسد الصَّادر في بلاد الإسْلام، فيعتبر حكمه، هذا ما ظهر لي في تحرير هذه المَسْأَلة فاغتنمه فإنه لا تجده في غير هذا الكتاب.
تعريف الـتأمين:
يعرف علماء القانون التأمين عامة بأنه: (نظام تعاقدي يقوم على أساس المعاوضة، غايته التعاون على ترميم أضرار المخاطر الطارئة بواسطة هيئات منظمة تزاول عقوده بصورة فنية قائمة على أسس وقواعد إحصائية)
ويعرف القانون المدني السوري والمصري التامين بأنه: (عقد بين طرفين أحدهما يسمى المؤمن والثاني المؤمن له (أو المستأمن) يلتزم فيه المؤمن بأن يؤدي إلى المؤمن لمصلحته مبلغا من المال أو إيرادا مرتبا أو أي عوض مالي آخر في حالة وقوع حادث أو تحقق خطر مبين في العقد وذلك مقابل قسط أو أية دفعة مالية أخرى يؤديها المؤمن له للمؤمن) .
حكم التأمين:
وقد انقسم المعاصرون من الفقهاء في حكم التأمين إلى ثلاثة مذاهب:
المذهب الأول: يقول أصحابه بتحريم التأمين بأنواعه المختلفة، معتمدين على ما أورده ابن عابدين من الأدلة والحجج الفقهية، وغيرها.
والمذهب الثاني: يقول أصحابه بإباحة التأمين بأنواعه المختلفة، ويستدلون على ذلك بأدلة مختلفة.
والمذهب الثالث: يفرق أصحابه بين التأمين التجاري والتأمين التبادلي (التعاوني)، فيحرمون الأول ويبيحون الثاني، ويستدلون لذلك بأدلة مختلفة.
وقد عقد لدراسة عقد التأمين وبيان حكمه الشرعي الكثير من المؤتمرات والندوات الفقهية، في العالمين العربي والإسلامي، وكانت الآراء الثلاثة المذكورة بين المعاصرين تظهر في كل ندوة ومؤتمر.
من ذلك مجمع الفقه الإسلامي المنعقد في دورته الأولى في مكة المكرمة بتاريخ 10/شعبان /1398هـ، حيث أصدر قراره بالأكثرية بالتفريق بين نوعي التأمين، فأباح التأمين التبادلي (التعاوني)، وحرم التأمين التجاري، وذلك بعد بحوث طويلة استمع إليها من عدد من الباحثين من الفقهاء المعاصرين، وبين الأسباب التي دعته لذلك القرار بإسهاب، وخالف في ذلك أستاذنا الكبير مصطفى الزرقاء -رحمه الله تعالى- حيث رأى إباحة التأمين بجميع أنواعه التجاري والتبادلي، سواء كان تأمينا على الحياة أو على الأمراض وسلامة الأعضاء، أو على البضائع ضد السرقة أو الحريق أو غير ذلك ...
وقد اتجه أكثر الفقهاء المعاصرين والكتاب الإسلاميين بعد ذلك إلى الاعتماد على ما ذهب إليه المجمع الفقهي المذكور، وبدؤوا بوضع صيغ مناسبة للتأمين التبادلي: (التعاوني) والدعوة إلى إنشاء مؤسسات اقتصادية متخصصة للتأمين التبادلي، تجسد فكرته وتبين أحكامه، لتحل محل مؤسسات وشركات التأمين التجاري في البلدان الإسلامية، وقد أطلق البعض على هذا النوع من التأمين: التأمين الإسلامي، نظرا لأن غالبية الفقهاء المعاصرين رأوا إباحته في الشريعة الإسلامية، إلا أن مخالفة بعض الفقهاء المعاصرين في إباحة التأمين التبادلي، وعدَّهم إياه نوعا من أنواع التأمين التجاري، والحكم عليهما بالحرمة، حد من انتشار تسميته بالتأمين الإسلامي.
وقد قامت في العديد من الدول الإسلامية بالفعل مؤسسات اقتصادية إسلامية للتأمين التبادلي، والتعامل به، من ذلك الشركة الأولى للتأمين في الكويت التي قامت منذ حوالي سنة، وبدأت نشاطها، واتجه الكثيرون من المسلمين إلى التعامل معها، والتأمين لديها، سواء على سياراتهم أو أموالهم الأخرى، ولم يمض زمن كاف بعد لتبين مدى نجاحها أو إخفاقها في عملها، ولكن الأيام القادمة لا بد أن تكشف عن ذلك.
الترجيح:
وإنني بعد دراستي للاتجاهات الثلاثة السابقة، وتعمقي في أدلة كل منها، ترجح لدي المساواة بين نوعي التأمين التبادلي (التعاوني) والتأمين التجاري، وأنهما محرمين.
أما التأمين التجاري فهو محرم لما تقدم من أدلة شرعية ذكرها واعتمد عليها المجمع الفقهي في قراره المتقدم، وهو ما اتجه إليه أكثر الفقهاء المعاصرين.
وأما حرمة التأمين التبادلي، فلأنه في نظري يتساوى مع التأمين التجاري في علة التحريم، وأن الفارق بينهما -إن وجد- فهو فارق غير مؤثر في الحكم.
لهذا فإنني سوف ألخص أدلة إباحة التأمين التجاري وأدلة تحريمه، وأقوم بتحليلها وبيان مدى قوتها أو ضعفها.
وأبين بعد ذلك أدلة إباحة التأمين التعاوني وأدلة تحريمه، ثم أقوم بتحليلها وبيان مدى قوتها أو ضعفها.
ثم أبين مدى مساواة التأمين التبادلي للتأمين التجاري في علة التحريم.
ثم أعقب بعد ذلك ببيان البدائل الشرعية للتأمين عامة.
وذلك كله بعد مقدمة قصيرة أعرف فيها بنوعي التأمين: التجاري والتبادلي(التعاوني).
مقدمة للتعريف بنوعي التأمين التجاري والتبادلي(التعاوني):
التأمين التجاري نوع من أنواع التأمين، وهو الأول ظهورا في العالم، والأكثر تداولا بين التجار والناس عامة، لسهولة التعامل فيه، وهو يقوم على أساس التعاقد بين طرفين، الأول يسمى المؤمِّن له -وهو الفرد أو الجماعة التي تريد حفظ نفسها أو أموالها بعقد التأمين- فيقوم بدفع أقساط متتابعة منظمة من المال، للطرف الثاني، لمدة معينة أو غير معينة، أو مبلغا مقطوعا لمرة واحدة، مقابل تعهد الطرف الثاني المسمى بالمؤمِّن -الذي يكون في أغلب الأحوال شركة أو مؤسسة مالية كبيرة- بتعويض الطرف الأول عن أضراره بالغة ما بلغت، إن أصابه أضرار معينة يتفق عليها في عقد التأمين، أو على مبلغ معين محدد سلفا في العقد، بشروط وأوصاف تحدد في عقد التأمين: (بوليصة التأمين).
والتامين التعاوني (التبادلي): مثل الأول تماما في موضوعه وشروطه، -في نظري- وإنما يفترق عنه فقط من حيث أطرافه، فالتأمين التجاري يتم بين طرفين: الأول المؤمِّن له، والثاني المؤمِّن (شركة التأمين)، وهو غير الطرف الأول، أما التأمين التبادلي(التعاوني) - كما يعرفه القائلون به- فيكون بين المؤمَّن له وجماعة المؤمَّن لهم، حيث تشكل جماعة المؤمن لهم صندوقا تجمع فيه مبالغ التأمين وأقساطه، حتى إذا ما وقع بأحدهم ضرر داخل في حدود ما جرى عليه التأمين معه عوضوه من هذا الصندوق عن أضراره، بحسب الشروط المذكورة في وثيقة (بوليصة) التأمين.
وسوف أورد ذيلا أدلة المحرمين والمبيحين لكل من نوعي التأمين التجاري والتبادلي، وأحاول تحليلها وأسلط الضوء على مواطن القوة والضعف في كل منها، كما يلي:
أدلة القائلين بتحريم التأمين التجاري وتحليلها ومناقشتها:
لخص المجمع الفقهي أدلة تحريم التأمين التجاري تلخيصا جيدا، ثم تعرض لدراسة الشبهات التي أوردها بعض الفقهاء المعاصرين -القائلين بإباحة التأمين بأنواعه المختلفة- على هذا التحريم، وفندها وبين ضعفها، وإنني سوف أعرض ذلك بتلخيص وتصرف قليل في حدود الضرورة، على الوجه التالي:
1 - التأمين التجاري من عقود المعاوضات الاحتمالية المشتملة على الغرر الفاحش، ذلك أن المؤمن له لا يستطيع عند إبرام عقد التأمين أن يعرف مقدار ما سوف يدفعه من أقساط، ولا يعرف مقدار ما سوف يأخذه بعد ذلك من التعويض، وربما لا يأخذ شيئا أصلا، وهو من الغرر الفاحش الذي نهى النبي صلى الله عليه وسلم عنه، فقد روى مسلم من طريق الأَعْرَجِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ: ( نَهَى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ بَيْعِ الْحَصَاةِ وَعَنْ بَيْعِ الْغَرَرِ) .
2 - إنه من عقود المقامرة والميسر، ذلك أن المؤمَّن له يدفع أقساطا معينة ولا يعرف إن كان سيصيبه حادث يستحق به تعويضا كبيرا، أو لا يصيبه شيء فلا يستحق شيئا، وهو نوع من الميسر الذي نهى عنه الله تعالى في كتابه الكريم، بقوله سبحانه: (يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالأَنصَابُ وَالأَزْلامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ) .
3 - إنه من عقود الربا، سواء في ذلك ربا الفضل المحرم بالقرآن الكريم في قوله تعالى: (وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا) ، أوربا النساء المحرم بالسنة الشريفة: لما روي: (عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم: الذَّهَبُ بِالذَّهَبِ وَالْفِضَّةُ بِالْفِضَّةِ وَالْبُرُّ بِالْبُرِّ وَالشَّعِيرُ بِالشَّعِيرِ وَالتَّمْرُ بِالتَّمْرِ وَالْمِلْحُ بِالْمِلْحِ مِثْلا بِمِثْلٍ يَدًا بِيَدٍ فَمَنْ زَادَ أَوِ اسْتَزَادَ فَقَدْ أَرْبَى الآخِذُ وَالْمُعْطِي فِيهِ سَوَاءٌ) . ذلك أن المؤمن له يدفع الأقساط التي عليه، ثم يقبض أكثر منها أو أقل منها، وذلك من ربا الفضل، أو يأخذ مثلها بعد مدة من الزمان وهو من ربا النساء.
4 - إنه من الرهان المحرَّمة، ذلك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم حرم الرهان، واستثنى منها ثلاثة أمور استحسانا، نص عليها في قوله صلى الله عليه وسلم: (لا سَبَقَ إِلا فِي نَصْلٍ أَوْ خُفٍّ أَوْ حَافِرٍ) ، وليس التأمين واحدة من هذه الثلاث.
5 - فيه أخذ مال الغير بغير مقابل في عقد معاوضة، ذلك أن المؤمن له يأخذ أكثر مما يدفع غالبا، وهو من أكل أموال الناس بالباطل، قال تعالى: (يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إِلا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ وَلا تَقْتُلُوا أَنفُسَكُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا).
6 - فيه إلزام ما لم يُلزِم به الشارع، ذلك أن الخطر الذي يطالب المؤمن له بالتعويض عنه لم يكن مما فعله المؤمِّن، ولم يتسبب فيه، فلا يكون ملزما بالتعويض عنه شرعا لذلك.
أدلة القائلين بإباحة التأمين التجاري وتحليلها ومناقشتها:
1 - إن عقد التأمين التجاري من العقود المستجدة التي لم يشهد الشارع لها بالتحريم أو الإباحة، فيكون على ذلك مباحا، بناء على قاعدة المصالح المرسلة، وقاعدة: (الأصل في الأشياء الإباحة)، وذلك لما يحققه هذا العقد للمؤمن لهم على أنفسهم أو أموالهم من مصالح كثيرة عند حصول النكبات والمصائب. وهي مصالح يحرص الشارع عليها.
إلا أنه يُرد على ذلك بأن المصلحة المدَّعاة مصلحةٌ ملغاة، وليست مرسلة، ذلك أن الشارع الإسلامي حرم المقامرة والغرر... وعقد التأمين يشتمل على ذلك كله كما تقدم، فتكون المصلحة فيه ملغاة وليست مرسلة، مثلها مثل المصلحة في الخمر والميسر، حيث قال الله تعالى: (يَسْأَلُونَكَ عَنْ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَإِثْمُهُمَا أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِمَا) ، فلا يكون مباحا لذلك.
2 - إن عقد التأمين من العقود التي جرى العرف عليها وارتضاها، حتى أصبح منتشرا بينهم انتشارا كبيرا عم الأمة كلها، والعرف من الأدلة المعتبرة في الشريعة الإسلامية، لقوله تعالى: (خُذْ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنْ الْجَاهِلِين) .
ويرد على ذلك بأن العرف لا يعتد به إذا خالف نصا تشريعيا باتفاق الفقهاء، وعقد التأمين مخالف لنصوص كثيرة من السنة حرمت بيع الغرر والمقامرة... كما تقدم، فلا يكون عرفا معتبرا، بل عرفا ملغى لذلك، فلا يكون حجة.
3 - إن عقد التأمين من عقود المضاربة، أو هو صورة من صورها، ذلك أن المؤمن له يدفع لشركة التامين أقساطا مالية، وتقوم شركة التأمين باستثمار هذه الأموال، ثم تدفع للمؤمِّن لهمنها مقدار أضراره عند حصولها، وهو صورة من صور المضاربة، أو هو متضمن لمعناها، والمضاربة مشروعة باتفاق الفقهاء.
ويرد على ذلك بأن عقد المضاربة لا يخرج فيه المال عن ملك رب المال، أما في التأمين، فإن الأقساط تخرج عن ملك المؤمن له بمجرد دفعها إليه، وليس له استرجاعُها بعد ذلك إذا لم يصبه ضرر، ثم إن الربح في المضاربة يكون شركة بين المضارب ورب المال، أما ربح أموال التأمين، فيكون لشركة التأمين وحدها، وليس للمؤمَّن له منه سوى التعويض عن ضرره إن حصل، وهما مختلفان جدا، فلا يكون القياس صحيحا.
4 - قياس عقد التأمين على عقد ولاء الموالاة، الذي يقول الحنفية بصحته.
ويرد على ذلك، بأن هنالك فارقا مؤثرا بين عقد التأمين وعقد الموالاة على قول الحنفية، ذلك أن عقد ولاء الموالاة غايته المؤاخاة وجمع الصف وتقوية العلاقة بين المؤمنين، أما عقد التأمين التجاري فالغاية منه الربح، وهما مختلفان جدا، ولا يصح القياس مع ذلك.
5 - قياس عقد التأمين على الوعد الذي يقول المالكية بأنه ملزم.
ويرد على ذلك بأن بين المقيس والمقيس عليه فارقا كبيرا، ذلك أن الغاية من الإلزام بالوعد من باب الوفاء والصدق، وهما مما حض الشارع عليه وأوصى به بنصوص كثيرة، منها قوله تعالى: (وَأَوْفُوا بِالْعَهْدِ إِنَّ الْعَهْدَ كَانَ مَسْئُولا) ، وقوله صلى الله عليه وسلم: (آية المنافق ثَلاثٌ إِذَا حَدَّثَ كَذَبَ وَإِذَا وَعَدَ أَخْلَفَ وَإِذَا اؤْتُمِنَ خَانَ) . أما عقد التأمين فهو عقد معاوضة يراد منها الربح ولا علاقة لها بالأخلاق. فكان القياس غيرَ صحيح.
6 - قياس عقد التأمين على ضمان الدَّرك، فقد قال عامة الفقهاء بجوازه، وعقد التأمين ما هو إلا صورة من صوره، فيكون مباحا لذلك.
ويرد على ذلك بأن بين الموضوعين فارقا مؤثرا لا يصح معه القياس، ذلك أن ضمان الدرك نوع من التبرع، وهذا معاوضة، والقواعد الفقهية تقضي بأن التبرعات مبنيةٌ على التسامح، أما المعاوضات فتبنى على التشاح، فلا يكون القياس صحيحا مع ذلك الفارق.
7 - قياس عقد التأمين على نظام العاقلة في دفع دية المقتول خطأ، حيث يوزع مبلغ الدية المتوجب بالقتل على عدد من أقارب القاتل، مما يهِّون على أهل القتيل أمر المصيبة، ويجعل التعويض موزعا على جماعة، وعقد التأمين قريب من هذا المعنى، حيث يؤدى التعويض من مجموع المال المحصل من عدد كبير من المؤمن لهم، فيكون فيه توزيع للمصيبة ومشاركة جماعية في تحملها.
ويرد على ذلك، بأن نظام العاقلة نظام يقوم على التبرع والتضامن بحكم الشرع من غير سابق عقد، وعقد التأمين عقد معاوضة، وهما مختلفان جدا، ولا يصح القياس مع ذلك.
8 - قياس عقد التأمين على عقد الحراسة، الذي اتفق الفقهاء على صحته، ذلك أن الحارس يتعاقد مع من يحتاج للحراسة على القيام بالحراسة مقابل أجرة معينة على ذلك، وعقد التأمين لا يخرج عن هذا المعنى، ذلك أن شركة التأمين تأخذ مبلغا من المال من المؤمَّن له، مقابل ما تقوم به قِبَلَهُ من الأمان على أمواله ونفسه، فيكون مباحا لذلك.
ويرد على ذلك، بأن بين الأمرين فارقا كبيرا لا يصح معه القياس، ذلك أن الحارس يقوم بعمل معين مقابل الأجر الذي يتقاضاه، فهو لذلك عقد إجارة عادي، أما شركة التأمين في عقد التأمين، فلا تقوم قبل المؤمن له سوى بدفع التعويض له عند حلول الضرر.
أدلة إباحة التأمين التعاوني، ومناقشتها:
إن عقود التأمين التعاوني (التبادلي) من عقود التبرع، يقصد بها أصالة التعاون على تفتيت الأخطار، وليست من عقود المعاوضات التي تقوم على أساس الربح، والتعاون مبدأ إسلامي دعا إليه القرآن الكريم في قوله سبحانه: (وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلا تَعَاوَنُوا عَلَى الإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ) .
ولا يؤثر فيه أن فيه غررا، لأن عقود التبرع يغتفر فيها من الغرر الكثير، على خلاف عقود المعاوضات، للقاعدة الفقهية الكلية: (يغتفر في التبرعات ما لا يغتفر في المعاوضات).
كما لا يؤثر أن فيه تفاضلا بين ما يدفعه المؤمَّن له وما يأخذه عند حدوث الضرر، وهو ليس من الربا، لأنه خرج عن المعاوضة إلى التبرع، والربا خاص بالمعاوضات، قال الميداني: (الربا في الشرع فضل خال عن عوض بمعيار شرعي مشروط لأحد المتعاقدين في المعاوضة) .
ولا يؤثر أيضا أن فيه جهالة في مقدار التعويض الذي يأخذه المؤمَّن له إذا أصابه ضرر، ولا مقدار الأقساط التي يدفعها المؤمن له، للسبب السابق نفسه.
إلا أنه يرد على ذلك كله بدعوى انتفاء التبرع في هذا العقد أصلا، ذلك أن التبرع معناه الهبة، وهي إعطاء المال إلى الغير بلا مقابل، قال الميداني: (الهبة شرعا تمليك عين بلا عوض) ، وهذا على خلافه، ذلك أن المؤمَّن له يدفع الأقساط بشرط أن يعوَّض عن الضرر الذي قد يتعرض له بعد ذلك، وهو مضمون المعاوضة، وينافي التبرع، فإن قيل: إنه تبرع بشرط العوض وهو من هبة الثواب، كان الجواب: إن هبة الثواب لدى عامة الفقهاء من المعاوضات، ولها أحكامها، قال الكاساني: (وأما العوض المشروط في العقد؛ فإن قال وهبت لك هذا الشيء على أن تعوضني هذا الثوب، فقد اختلف في ماهية هذا العقد، قال أصحابنا الثلاثة رضي الله عنهم إن عقده عقد هبة وجوازه جواز بيع، وربما عبروا أنه هبة ابتداء بيع انتهاء) .
وجاء في المدونة: (الهبة للثواب يصاب بها العيب قلت: أرأيت إن وهبت هبة للثواب وأخذت العوض فأصاب الموهوب له بالهبة عيبا أنه يرجع في عوضه ويرد الهبة ؟ قال: نعم. , الهبة على العوض بيع من البيوع يصنع فيها وفي العوض ما يصنع بالبيع. قلت: وهذا قول مالك ؟ قال نعم. والهبة على العوض في قول مالك مثل البيوع محملٌ واحدٌ) .
وقال قليوبي: (ولو وهب بشرط ثواب معلوم , فالأظهر صحة العقد، ويكون بيعا على الصحيح، نظرا إلى المعنى، والثاني لا يكون هبة، نظرا إلى اللفظ، فلا يلزم قبل القبض، ومقابل الأظهر بطلان العقد، لمنافاة شرط الثواب للفظ الهبة المقتضي للتبرع، أو بشرط ثواب مجهول كثوب، فالمذهب بطلانه، أي العقد، لتعذر تصحيحه بيعا بجهالة العوض وهبة بذكر الثواب، بناء على أنها لا تقتضيه، وقيل يصح هبة بناء على أنها تقتضيه) .
وقال البهوتي: (وإن شرط الواهب فيها أي الهبة عوضا معلوما صارت الهبة بيعا، فيثبت فيها خيار مجلس، ونحوه، ويثبت فيها شفعة إن كان الموهوب شقصا مشفوعا، ونحوَهما كالرد بالعيب، واللزوم قبل التقابض، وضمان الدرك، ووجوب التساوي مع التقابض قبل التفرق في الربوي المتحد، لأنه تمليك بعوض معلوم أشبه ما لو قال بعتك أو ملكتك هذا بهذا) .
وقد جاء في الموسوعة الفقهية التي تصدرها وزارة الأوقاف في الكويت: (فإن اشتُرِط (أي الثواب) في العقد (أي عقد الهبة) وكان معلوما صح العقد عند الحنفية والمالكية والحنابلة والشافعية في الأظهر، نظرا للمعنى عندهم، والقول الثاني للشافعية أن العقد باطل نظرا إلى اللفظ لتناقضه، فإن لفظ الهبة يقتضي التبرع، وإذا صح العقد اعتبر بيعا أو كالبيع في الجملة، ويكون له أحكام البيع....) .
وعليه فإن عقد التأمين التعاوني (التبادلي) عقد معاوضة، مثله مثل التأمين التجاري، بدون فارق مؤثر بينهما، وعلى من يقول بحرمة التأمين التجاري -وهم عامة فقهاء العصر كما تقدم- أن يقولوا بحرمة التأمين التبادلي، لعدم الفارق المؤثر بينهما.
وربما أثار البعض من الفقهاء بعض الشبهات في ذلك، قائلين -كما تقدم- إن التأمين التجاري يتم بين مؤمن له وشركة غريبة عنه، بينما التأمين التبادلي يتم بين مؤمَّن له ومؤمَّن له آخر، أو بين مؤمن له وجماعة المؤمن لهم.
والجواب أن هذا الفارق فارق غير مؤثر، لأنه لا يخرج العقد عن مضمون المعاوضة التي هي علة التحريم في التأمين التجاري، فلا يؤثر في تغيير الحكم انتفاء أوصاف أخرى غير مؤثرة فيه.
وقد أيد مبدأ التسوية بين التأمين التجاري والتأمين التعاوني، عدد من كبار الفقهاء المعاصرين، ثم انتهى بعضهم إلى إباحة النوعين، وانتهى آخرون إلى تحريم النوعين.
وممن سوى بين النوعين، أستاذنا الكبير مصطفى الزرقاء رحمه الله تعالى، وقال وهو يرد على بعض من يفرق بينهما ويدعي أن التأمين التجاري معاوضة، والتأمين التبادلي تبرع: (ويُرد على هذا أن عنصر المعاوضة موجود قطعا في التأمين التبادلي وإن لم يكن ظاهرا فيه ظهوره في التجاري، فالمساهم في صندوق التأمين التبادلي إنما يقدم مبلغ مساهمته في الصندوق لترميم أي ضرر يلحق أحد المساهمين (وهو منهم) أي إنما يقدمه على أساس أن يعوِّض الصندوق ضرره هو أيضا، ولولا أنه مشمول بهذا التعويض إن لحقه ضرر لما ساهم أصلا، كما أنه إنما يساهم في الصندوق على أساس أنه لا يعوض منه أي متضرر من غير المساهمين فيه) . وقال: (يتضح إذن أن تصور كون التأمين التبادلي (التعاوني) تبرعا محضا لا يؤثر فيه الغرر، وأنه لذلك حلال شرعا، إنما هو وهم في وهم) ، ثم تعرض لما قدمه الدكتور الضرير فقال: (وقد وقع الدكتور الضرير أيضا في هذا الوهم، فادعى أن التأمين التعاوني هو من قبيل التبرعات، ولكنه فيما يبدو قد انتبه إلى هذا الإيراد الذي يرد عليه، فادعى أنه عقد تبرع من نوع خاص لا نظير له في عقود التبرعات المعروفة في الفقه الإسلامي) ، ثم تعرض لأدلة من يحرمون التأمين التجاري التي اعتبرها شبهات، وعلق عليها بقوله: (فلا فرق في كل هذه الشبهات المزعومة بين تجاري وتعاوني من حيث طبيعة كل منهما ومضمونه، سوى أن من يقوم بإدارة عملية التأمين فيما يسمى تجاريا وهو شركة التأمين يعود عليه ربح في النتيجة من فرق ما يأخذ من أقساط، وما يؤدي عند وقوع الخطر من تعويضات، وهذه ناحية خارجية لا تغير من طبيعة التأمين شيئا، فكيف تصبح هذه المحاذير في التأمين التعاوني مباحة؟ وهل يجوز شرعا التعاون على القمار والرهان والمراباة؟) ثم قال: (فعلى الذين ينادون بتحريم التأمين التجاري ويهرولون فيه دون تتبصر وتمحيص، إما أن يقولوا بتحريم التعاوني أيضا ليخرجوا من التناقض والعاطفية في الأحكام... وإما أن يسووا بين التأمين التجاري والتعاوني... وهذا هو النظر السديد الذي لا مناص منه إذا أريد الخروج من التناقض في التصور والحكم) .
ومنهم الدكتور شوكت محمد عليَّان، حيث قال بعد ما استعرض بعضا مما أوردته عن الأستاذ الزرقاء، مؤيدا له: (وأنا شخصيا أوافق ما ذهب إليه الشيخ مصطفى الزرقاء من عدم الفارق بين التأمين التجاري والتأمين التبادلي، وأن كلا منهما يأخذ حكم الآخر، فهما في الحقيقة سواء، وأخالفه في إباحته للتأمين بصوره الثلاث) .
الترجيح:
لهذا فإنني أنتهي إلى أن التأمين التعاوني (التبادلي) محرم شرعا، لما تقدم من أدلة تحريم التأمين التجاري الذي اتجه إليه كثير من الفقهاء، إن لم يكن أكثرُهم، منهم العلامة ابن عابدين ناقل المذهب الحنفي، والشيخ بخيت المطيعي مفتي الديار المصرية، والشيخ عبد الرحمن قراعة مفتي الديار المصرية، والإمام محمد أبو زهرة أستاذ الشريعة الإسلامية في كلية الحقوق بجامعة القاهرة، والشيخ عبد الله القلقيلي مفتي المملكة الأردنية الهاشمية، والشيخ الدكتور محمد أبو اليسر عابدين المفتي العام للجمهورية العربية السورية، والدكتور عيسى عبده، وغيرهم كثير .
بدائل التأمين بأنواعه المختلفة:
ولأنه لا فارق مؤثرا بين التأمين التبادلي والتأمين التجاري، كما سبق بحثه، ولأنه -رغم المصلحة المترتبة على التأمين- ليس هو العقد أو التصرف الوحيد الذي يؤمن هذه المصلحة، ذلك أن هنالك تصرفات شرعية أخرى تؤمن هذه المصلحة على وجه أوفى وأسمى، وهي كلها بعيدة عن الشبهات وأدلة التحريم وقرائنه بالكلية، وسوف أورد بعضا منها، وهي: الزكاة- والكفارات-والنفقات- والصدقات العامة- والقسامة- والديات- والأوقاف.
وسوف ألمح بعبارة مختصرة إلى كل واحد من هذه البدائل، مبينا مدى قيامها بمهمة المساعدة على تجاوز النكبات والمصائب وتقديم العون فيها، وسوف أخص بالتفصيل بعض الشيء نظام الوقف، مبينا أنه النظام الأرجح للحلول محل التأمين بأنواعه المختلفة، كما يلي:
1)) نظام الزكاة:
لقد فرض الله تعالى الزكاة على أغنياء المسلمين لفقرائهم، وجعلها ركنا من أركان الإسلام، ويخرج عن الإسلام من لا يؤمن بفرضيتها، ويفسق من يتساهل في أمر إخراجها لمستحقيها، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (بُنِيَ الإِسْلامُ عَلَى خَمْسٍ شَهَادَةِ أَنْ لا إِلَهَ إِلا اللَّهُ وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ وَإِقَامِ الصَّلاةِ وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ وَالْحَجِّ وَصَوْمِ رَمَضَانَ ) . وقال صلى الله عليه وسلم : (فَأَعْلِمْهُمْ أَنَّ اللَّهَ افْتَرَضَ عَلَيْهِمْ صَدَقَةً تُؤْخَذُ مِنْ أَغْنِيَائِهِمْ فَتُرَدُّ فِي فُقَرَائِهِمْ) . والزكاة في الأموال الباطنة (النقود والعروض التجارية) تكون بمقدار ربع العشر في كل عام، وإذا عرفنا أن البنوك الربوية تدفع في غالب الأحوال 10% على الودائع، عرفنا أن نسبة الزكاة تساوي ربع أرباح الأغنياء عامة، وهو مبلغ كبير كاف لترميم فقر أكثر الفقراء، إن لم يكن كافيا لترميم جميع حاجاتهم، والزكاة كما هو معروف حق ثابت للفقراء في مال الأغنياء من غير منة، قال تعالى: (وَفِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ) . وأن لولي أمر المسلمين أن يقوم بجمعها بنفسه من الأغنياء ليصرفها بنفسه وأعوانه للفقراء، إذا ما رأى في ذلك المصلحة، كما أن له أن يتركها لأصحابها ليخرجوها بأنفسهم، إذا رأى المصلحة في ذلك.
2)) الكفارات:
والكفارات كما هو معرف في الفقه الإسلامي عبادات واجبة على من ارتكب بعض المخالفات الموجبة لها، وأهمها:
الحنث باليمين، لقوله تعالى: (لا يُؤَاخِذُكُمْ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا عَقَّدْتُمْ الأَيْمَانَ فَكَفَّارَتُهُ إِطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ أَوْ كِسْوَتُهُمْ أَوْ تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ ذَلِكَ كَفَّارَةُ أَيْمَانِكُمْ إِذَا حَلَفْتُمْ وَاحْفَظُوا أَيْمَانَكُمْ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ) .
والمظاهرة من الزوجة: قال تعالى: (وَالَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا قَالُوا فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا ذَلِكُمْ تُوعَظُونَ بِهِ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا فَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَإِطْعَامُ سِتِّينَ مِسْكِينًا ذَلِكَ لِتُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ أَلِيمٌ) .
وكفارة الفطر في رمضان، فعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِي اللَّهُ عَنْهُ قَالَ:(جَاءَ رَجُلٌ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ هَلَكْتُ فَقَالَ وَمَا ذَاكَ قَالَ وَقَعْتُ بِأَهْلِي فِي رَمَضَانَ قَالَ تَجِدُ رَقَبَةً قَالَ لا قَالَ فَهَلْ تَسْتَطِيعُ أَنْ تَصُومَ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ قَالَ لا قَالَ فَتَسْتَطِيعُ أَنْ تُطْعِمَ سِتِّينَ مِسْكِينًا قَالَ لا قَالَ فَجَاءَ رَجُلٌ مِنَ الأَنْصَارِ بِعَرَقٍ وَالْعَرَقُ الْمِكْتَلُ فِيهِ تَمْرٌ فَقَالَ اذْهَبْ بِهَذَا فَتَصَدَّقْ بِهِ قَالَ عَلَى أَحْوَجَ مِنَّا يَا رَسُولَ اللَّهِ وَالَّذِي بَعَثَكَ بِالْحَقِّ مَا بَيْنَ لابَتَيْهَا أَهْلُ بَيْتٍ أَحْوَجُ مِنَّا قَالَ اذْهَبْ فَأَطْعِمْهُ أَهْلَك)
وكفارة القتل الخطأ، قال تعالى: (وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ أَنْ يَقْتُلَ مُؤْمِنًا إِلا خَطَأً وَمَنْ قَتَلَ مُؤْمِنًا خَطَأً فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ وَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ إِلا أَنْ يَصَّدَّقُوا فَإِنْ كَانَ مِنْ قَوْمٍ عَدُوٍّ لَكُمْ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ وَإِنْ كَانَ مِنْ قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ فَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ وَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ تَوْبَةً مِنْ اللَّهِ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا) .
وكفارة الإخلال بأحكام الإحرام، ومنها قتل الصيد في حالة الإحرام، قال تعالى: (يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقْتُلُوا الصَّيْدَ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ وَمَنْ قَتَلَهُ مِنْكُمْ مُتَعَمِّدًا فَجَزَاءٌ مِثْلُ مَا قَتَلَ مِنْ النَّعَمِ يَحْكُمُ بِهِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ هَدْيًا بَالِغَ الْكَعْبَةِ أَوْ كَفَّارَةٌ طَعَامُ مَسَاكِينَ أَوْ عَدْلُ ذَلِكَ صِيَامًا لِيَذُوقَ وَبَالَ أَمْرِهِ عَفَا اللَّهُ عَمَّا سَلَفَ وَمَنْ عَادَ فَيَنتَقِمُ اللَّهُ مِنْهُ وَاللَّهُ عَزِيزٌ ذُو انتِقَامٍ) .
3 )) نظام النفقة على الزوجة والأقارب:
لقد فرض الله تعالى على كل غني أن ينفق على أقاربه الفقراء العاجزين عن العمل، وجعل ذلك حقا مكتسبا لهم يستطيعون-إذا منعوا منه- أن يطلبوه بقوة القضاء، وقد اختلف الفقهاء في مدى شمول ذلك إلى عامة الأقرباء.
فذهب المالكية إلى أن النفقة على الأقارب محصورة بالوالدين المباشرين والأولاد المباشرين فقط.
وجعله الشافعية عاما في كل الأصول والفروع مهما بعدوا.
وعممه الحنفية والحنبلية على جميع الأقارب من العصبات وذوي الفروض وذوي الأرحام، مهما بعدوا، الأقرب فالأقرب.
وذلك بعد الاتفاق على وجوب نفقة الزوجة على زوجها ولو كانت غنية، لقوله تعالى: (وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ لا تُكَلَّفُ نَفْسٌ إِلا وُسْعَهَا) .
4 )) ومنه الصدقات العامة:
حيث حض الشارع الإسلامي الأغنياء كثيرا على الصدقات العامة من فاضل أموالهم، ووعد المتصدقين بتعويضهم عما أنفقوه أجرا كبيرا في الجنة ونماء لأموالهم في الدنيا، قال تعالى: (مَثَلُ الَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِي كُلِّ سُنْبُلَةٍ مِائَةُ حَبَّةٍ وَاللَّهُ يُضَاعِفُ لِمَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ ).
5)) والقسامة:
وذلك إذا قتل مسلم في مكان ما من البلد أو القرية أو المحلة، ولم يُعرف قاتله، فإن الشارع الإسلامي جعل لأولياء القتيل الحق في رفع الدعوى على خمسين من أهل المحلة أو القرية أو البلد التي قتل فيها، فيحلفون لهم بالله تعالى أنهم لم يقتلوه ولم يعلموا من قتله، فإن حلفوا لهم بذلك غرم أهل المحلة ديته لهم، وإن نكلوا عن الحلف حُبسوا حتى يحلفوا، وقد ثبت ذلك عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقد روى البخاري: (أَنَّ رَجُلا مِنَ الأَنْصَارِ يُقَالُ لَهُ سَهْلُ بْنُ أَبِي حَثْمَةَ أَخْبَرَهُ أَنَّ نَفَرًا مِنْ قَوْمِهِ انْطَلَقُوا إِلَى خَيْبَرَ فَتَفَرَّقُوا فِيهَا وَوَجَدُوا أَحَدَهُمْ قَتِيلا وَقَالُوا لِلَّذِي وُجِدَ فِيهِمْ قَدْ قَتَلْتُمْ صَاحِبَنَا قَالُوا مَا قَتَلْنَا وَلا عَلِمْنَا قَاتِلا فَانْطَلَقُوا إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالُوا يَا رَسُولَ اللَّهِ انْطَلَقْنَا إِلَى خَيْبَرَ فَوَجَدْنَا أَحَدَنَا قَتِيلا فَقَالَ الْكُبْرَ الْكُبْرَ فَقَالَ لَهُمْ تَأْتُونَ بِالْبَيِّنَةِ عَلَى مَنْ قَتَلَهُ قَالُوا مَا لَنَا بَيِّنَةٌ قَالَ فَيَحْلِفُونَ قَالُوا لا نَرْضَى بِأَيْمَانِ الْيَهُودِ فَكَرِهَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يُبْطِلَ دَمَهُ فَوَدَاهُ مِائَةً مِنْ إِبِلِ الصَّدَقَةِ)
هذا تعريف القسامة لدى بعض الفقهاء، ولها تعريف آخر مقارب لدى فقهاء آخرين. وبذلك تكون القسامة مظهرا من مظاهر التعاون في تحمل المصيبة والكارثة.
6 )) الديات:
ذلك أن من قتل آخر خطأ أو شبه عمد أو شبه خطأ أو بطريق التسبب، مسلما كان القتيل أو ذميا، وجب على عاقلة القاتل دية القتيل، وتجعل تركة عنه توزع على ورثته، قال تعالى: (وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ أَنْ يَقْتُلَ مُؤْمِنًا إِلا خَطَأً وَمَنْ قَتَلَ مُؤْمِنًا خَطَأً فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ وَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ إِلا أَنْ يَصَّدَّقُوا فَإِنْ كَانَ مِنْ قَوْمٍ عَدُوٍّ لَكُمْ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ وَإِنْ كَانَ مِنْ قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ فَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ وَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ تَوْبَةً مِنْ اللَّهِ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا) .
وبذلك تكون الدية على العاقلة نوعا من أنواع التعاون في سبيل رفع المصيبة والمشاركة في تحمل آثارها .
7 )) الأوقاف:
وهي الصدقة الجارية التي حض النبي صلى الله عليه وسلم عليها، وشجع المسلمين إلى القيام بها، والوقف كما عرفه عامة الفقهاء هو: (حبس عين المال على ملك الله تعالى والتصدق بمنافعه) ، وقد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (إِذَا مَاتَ الإِنْسَانُ انْقَطَعَ عَنْهُ عَمَلُهُ إِلا مِنْ ثَلاثَةٍ إِلا مِنْ صَدَقَةٍ جَارِيَةٍ أَوْ عِلْمٍ يُنْتَفَعُ بِهِ أَوْ وَلَدٍ صَالِحٍ يَدْعُو لَهُ) .
والأوقاف على ثلاثة أنواع:
النوع الأول: الوقف الخيري، وهو الوقف على الفقراء والمساكين وفي طرق البر العامة.
والنوع الثاني: الوقف الذري، وهو الوقف على الذرية من الأولاد وأولادهم وإن نزلوا، أو على الإخوة وغيرهم من الأقارب أو الأصدقاء أو غيرهم من المعينين باسمهم.
والنوع الثالث: الوقف المشترك، وهو الوقف الذي يعم النوعين الأول والثاني، فيكون بعضه للخيرات وبعضه الآخر للذرية، كأن يقول الواقف: وقفت هذه الدار نصفَها أو ربعَها أو... للخيرات، والباقي للذريَّة، وهم ... بشرط كذا وكذا ... .
وأول من شرع الوقف في الإسلام رسول الله صلى الله عليه وسلم، لما رواه البخاري قال :(عَنِ ابْنِ عُمَرَ رَضِي اللَّهُ عَنْهُمَا أَنْ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ أَصَابَ أَرْضًا بِخَيْبَرَ فَأَتَى النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَسْتَأْمِرُهُ فِيهَا فَقَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنِّي أَصَبْتُ أَرْضًا بِخَيْبَرَ لَمْ أُصِبْ مَالا قَطُّ أَنْفَسَ عِنْدِي مِنْهُ فَمَا تَأْمُرُ بِهِ قَالَ إِنْ شِئْتَ حَبَسْتَ أَصْلَهَا وَتَصَدَّقْتَ بِهَا قَالَ فَتَصَدَّقَ بِهَا عُمَرُ أَنَّهُ لا يُبَاعُ وَلا يُوهَبُ وَلا يُورَثُ وَتَصَدَّقَ بِهَا فِي الْفُقَرَاءِ وَفِي الْقُرْبَى وَفِي الرِّقَابِ وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ وَابْنِ السَّبِيلِ وَالضَّيْفِ لا جُنَاحَ عَلَى مَنْ وَلِيَهَا أَنْ يَأْكُلَ مِنْهَا بِالْمَعْرُوفِ وَيُطْعِمَ غَيْرَ مُتَمَوِّلٍ قَالَ فَحَدَّثْتُ بِهِ ابْنَ سِيرِينَ فَقَالَ غَيْرَ مُتَأَثِّلٍ مَالا) .
ولو رجعنا إلى التاريخ الإسلامي، وقلبنا فيه صفحات الوقف، لوجدنا نماذج رائعة من معاونة الفقراء والمساكين والمنكوبين بطريق الأوقاف الذرية والخيرية والوقف المشترك، وقد حدثنا التاريخ أن أوقافا كثيرة كانت توقف للتعويض على أصحاب الكوارث ومن حلت بهم المصائب وناؤوا بحملها، فهنالك أوقاف لمن ماتت دابته ولم يستطع شراء دابة أخرى لفقره، ومن كسر إناؤه ولم يستطع لفقره شراء إناء آخر غيره، وهكذا .... .
وقد أجاز كثير الفقهاء للواقف أن يوقف ماله على نفسه مدة حياته، ثم على من شاء من أناس معينين بذاتهم، كأولاده أو أصحابه أو جيرانه أو العلماء أو الطلاب أو المرضى أو أصحاب العاهات أو أصحاب الكوارث والمصائب أو.... بشروط يحددها في وقفيته، ثم يقيم ناظرا على أوقافه هذه يديرها ويرعاها ويصرفها في مصارفها المنصوص عليها في حجة الوقف، أويترك الأمر للقاضي في حياته أو من بعده...
ويمكن لنا استغلال هذا المرفق أو هذا النظام الإسلامي الثري بشروطه وأنواعه وأحكامه، التي أثراها فقهاء المسلمين بالدراسة والبحث، وألفوا فيها موسوعات كبيرة، للتخفيف عن أصحاب الكوارث والمصائب، سواء كان سبب ذلك الوفاة أو الحريق أو الغرق أو التصادم بين سيارتين أو .... وهو موضوع متفق عليه بين المسلمين، وهو معلم من معالم التعاون الإسلامي يمكن الاستغناء به تماما عن التأمين بالكلية، وهو تبرع محض ليس فيه شبهة المعاوضة، وهو نوع من الصدقة المثاب عليها، وفيه كل البعد عن الجشع والطمع في الربح الدنيوي، لأن الوقف نوع من الصدقة كما تقدم، بل هو الصدقة الجارية التي تعود على صاحبها بالربح الأخروي أبد الدهر، لقوله صلى الله عليه وسلم :(مَنْ سَنَّ سُنَّةً حَسَنَةً فَعُمِلَ بِهَا كَانَ لَهُ أَجْرُهَا وَمِثْلُ أَجْرِ مَنْ عَمِلَ بِهَا لا يَنْقُصُ مِنْ أُجُورِهِمْ شَيْئًا وَمَنْ سَنَّ سُنَّةً سَيِّئَةً فَعُمِلَ بِهَا كَانَ عَلَيْهِ وِزْرُهَا وَوِزْرُ مَنْ عَمِلَ بِهَا مِنْ بَعْدِهِ لا يَنْقُصُ مِنْ أَوْزَارِهِمْ شَيْئًا) .
وإنني أرى أن يستبدل بالتأمين أصلا نظام الوقف الخيري على أصحاب الكوارث، فيتبرع الواقفون لوجه الله تعالى ببعض أموالهم على سبيل الدفعة الواحدة أو الدفعات المتكررة(الأقساط الشهرية أو السنوية...) وقفا إفراديا، أو وقفا جماعيا مشتركا، ويشترطون أن تنمى هذه الأموال، سواء كانت نقودا أو عقارات أو منقولات، على أن يصرف ريعها على التعويض عن أصحاب الكوارث والمصائب، من نوع معين يحددونه، وبشروط خاصة يقيدون التعويض بها، أو مطلقا، ولهم في هذه الحال أن يجعلوا التعويض خاصا بالمتبرعين للوقف فقط، أو يعمموه عليهم وعلى كل مصاب غيرهم مطلقا، أو على أصحاب مصائب معينة في كل العالم، أو في بلد معين، يحددونه أو.... .
هذا النظام يتضمن إلى حد بعيد جدا إيجابيات نظام التأمين، بشكليه التجاري والتبادلي، ويخلو عن سلبيات هذين النظامين، لأنه تبرع باتفاق الفقهاء، ولا شبهة للمعاوضة فيه أبدا، ولأنه صدقة يؤجر صاحبها عليها عند الله تعالى في حياته وبعد وفاته، ولأن أصول هذا المال تبقى قائمة، ليس لأحد بيعها أو استهلاكها أبد الدهر، وبه يتأمن استمرار نفعها للمصابين وأصحاب الكوارث الموقوف عليهم أبد الدهر.
توصيات:
وإنني أقترح على هذه الندوة الموقرة، أن تدرج في توصياتها تأليف لجنة متخصصة في دراسة الوقف بصفته بديلا شرعيا عن نظام التأمين، لتقوم بتقديم تصور كامل عن مدى الاستفادة من هذا النظام، والاستغناء به عن نظام التأمين بأنواعه المختلفة، سواء كان تأمينا على الحياة، أو تأمينا على الأموال، أو... ، وإنني على شبه يقين من أننا لو فعلنا ذلك سوف نشهد نظاما تبرعيا متكاملا، يؤمن لنا جميع إيجابيات التأمين المعروف الآن، مع تجنب جميع سلبياته، الشرعية والعملية، لأن التأمين المعروف الآن بأنواعه المختلفة -إلى جانب فوائده الجمة- له سلبيات خطيرة، غير موجودة في الوقف، منها أن نظام التأمين دفع الكثيرين من النفعيين المتهورين، إلى التهاون في أمر سلامة ممتلكاتهم، معتمدين على التعويض المترتب عن هلاكها وتلفها، مما زاد كثيرا في حوادث السير أو غيرها.
والله تعالى أعلم.
21/ شعبان/1422هـ و 6/11/2001م
أ.د.أحمد الحجي الكردي