مصطفى الزرقا أستاذ جيل وإمام عصر*
المتوفى في ربيع الأول 1420 هـ
بقلم: تلميذه الدكتور أحمد الحجّي الكردي
روى البخاري عن إسماعيل بن أبي أويس قال: حدثني مالك عن هشام عن عُروة عن أبيه عن عبد الله بن عمرو بن العاص قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلّم يقول: "إنّ الله لا يقبض العلم انتزاعاً ينتزعه من العباد، ولكن يقبض العلم بقبض العلكاء، حتى إذا لم يبقَ عالماً اتخذ الناس رؤوساً جهّالاً فسُئِلوا فأفتوا بغير علم فضلّوا وأضلّوا".
مما تميز به الفقيه الراحل اطلاعه على العلوم القانونية، واضطلاعه بتدريسها في عدد من الجامعات العربية والإسلامية، والتأليف فيها، حتى عُدّ المرجع المتقدّم فيها، مما مكّنه من المقارنة بينها وبين نظائرها في الفقه الإسلامي، وإظهار رجحان الأحكام الفقهية وتميّزها عليها، بالأدلة العلمية الناهضة، وهو ما لم يتوفر لأكثر فقهاء العصر.
وقد أكرمني الله تعالى بدراسة أكثر كتبه عليه في جامعة دمشق، ثم القيام بتدريس أكثرها مكانه في جامعتي دمشق وحلب، بعد رحيله عن سوريا إلى المملكة الأردنية الهاشمية للتدريس في جامعاتها، ثم إلى المملكة العربية السعودية للاستفادة من خبرته النادرة ومشورته الصائبة التي كانت محلّ الاعتبار والرضا في المؤسسات العلمية كافة في المملكة العربية السعودية بمجامعها المختلفة، وفي غيرها من البلدان الإسلامية شرقاً وغرباً.
وقد شارك رحمه الله تعالى في وضع العديد من مشاريع القوانين في البلدان العربية، كما ساهم في شرح وتنقيح بعض منها، من ذلك: قانون الأحوال الشخصية السوري، والقانون المدني الأردني...
كما وضع رحمه الله اللبنة الأولى في صرح الموسوعة الفقهية في دولة الكويت عام 1967م، ومشى فيها خطوات ثابتة هامة كانت العمدة في استمرار هذه الموسوعة إلى يومنا هذا بحمد الله تعالى وتوفيقه، على يد نخبة من أبناء الكويت الأمناء والعديد من الفقهاء المتخصصين.
كما كان رحمه الله تعالى مصدراً هاماً للفتوى في العالم الإسلامي، وقد صدر عنه فتاوى كثيرة في حياته كانت مميّزة وذات طابع اجتهادي خاص، فهو رحمه الله تعالى وإن كان حنفيّ المذهب، إلا أن فتاواه لم تكن تقف عند حدود هذا المذهب، ولكن تعدّته إلى المذاهب الثلاثة الأخرى: المالكي والشافعي والحنبلي، وربما جَنَحَ إلى ترجيح آراء ابن تيمية في بعض المسائل، أو اتّجه اتجاهاً خاصاً متفرّداً في بعض الأحكام - وبخاصة المستجدة منها - إلى ما يراه راجحاً ومحقِّقاً للمصلحة، وربما وافق في توجهه هذا أكثر الفقهاء أو بعضهم، وربما خالفهم فيه جميعاً غير آبهٍ بخلافهم، مثل إباحته التأمين ضد الأخطار، والتأمين على الحياة، لدى شركات التأمين التجارية، فقد عُرِضَ هذا الموضوع على مجمع الفقه الإسلامي، فاتجه جميع أعضائه فيه إلى المنع، لما فيه من الغَرَر، وتفرّد الشيخ الزرقاء دونهم بإباحته، لما رآه من المصلحة، وقياساً له على عقد الموالاة وغيره, وهذه الميزة في الشيخ يعدّها البعض من ميزاته الإيجابية، لما بلغه رحمه الله تعالى من العلم، وما وصل إليه من القدرة على التحليل والاستنتاج، ويعدّها آخرون من سلبياته التي تجرّأ فيها على مخالفة الأكثرية، والخروج على الجماعة.
وهو في نظري مأجور فيها إن شاء الله تعالى مصيباً كان أو مخطئاً، لأنه عالم ومحقّق بذل جهده كاملاً، فثبت أجره على الله تعالى، لقول النبي صلى الله عليه وسلم:"إذا حكم الحاكم فاجتهد ثم أصاب فله أجران، وإذا حكم فاجتهد ثم أخطأ فله أجر" متفق عليه.
فنسال الله تعالى لفقيهنا وفقيدنا الغالي الرحمة والرضوان، والمقام العالي في جنات الخلد، مع النبيين والصديقين والشهداء والصالحين، وأن يعوض الله تعالى العالم الإسلامي بخسارته فيه خيراً، وأن يثيب الفقيد الغالي عما قدم للمسلمين عامة وللفقه الإسلامي خاصة من علوم ومعرفة جناتٍ عرضها السماوات والأرض، وأن يرزقَ أهله وذويه وطلابه ومحبيه كافّة الصبر والسلوان، إنه على ما يشاء قدير، وبالإجابة جدير، وإنا لله وإنا إليه راجعون.
* توفي الشيخ رحمه الله تعالى في مدينة الرياض عصر يوم السبت 19 ربيع الأول 1420هـ
الموافق 3 تموز 1999م.